رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

حين مات شقيق روحى!

حين يموت صديقك يموت جزء فيك ومنك, يتحدد قدره بمقدار عمق الصداقة، ومساحة الوجود والوجدان المشترك بينكما. يموت فيك ذلك الوجود الحى الذى يمثل شطر روح، ذلك المثال المجسد الذى يتشكل على هيئة صديقك، ويسكن روحك، تخاطبه، تعاتبه، تشتكى اليه، ومنه بينك وبين نفسك، فهو حاضر معك طوال الوقت لأنه فيك. ويموت منك الإحساس بالعالم والوجود الذى كنت تشعر به فقط فى وجود شطر روحك.

هنا تذبل الروح وتضمر وتقترب من نقطة البرزخ ما بين الحياة والموت، تتوق الى ان تذهب حيث ذهب من تحب، لأنها ترى الوجود قد انتقل هناك، حيث معنى الحياة التى تعودت أنها تكون مع شطرها وشقيقها، وأن العدم بكماله يكون حين ينعدم وجود شقيقها، فلا مكان فى عرفها دون اكتمال الشطرين، واجتماع الشقيقين، فلا زمان جدير بالعيش لن يكون لشقيق الروح فيه ذكرى، أو امل باختزان ذكرى نتشاركها حين نلتقى بعد غياب.

فى لحظة سريعة خاطفة جاءنى خبر انتقال شقيق الروح هانئ رسلان، فى وعكة صحية بسيطة، وهو البطل المثابر العاشق للحياة فى سلام وأمن ورضاء وتسليم، انتصر منذ ربع قرن على ما هو اشد خطورة من تلك الوعكة البسيطة، ولكنه فى هذه اللحظة قرر الرحيل بسلام، وآثر التسليم، وأبى أن يقاوم، لعله رأى مقاماً هناك أكثر جاذبية وسلاماً.

فراق دون مقدمات جعل من الصعب الذى يقارب المستحيل أن اصدق أن كل مخزون الحكايات منذ واحد واربعين سنة قد انتهى فجأة، وأننا لن نعيدها رواية كل واحدة منها مرات ومرات؛ وكأننا نقولها لأول مرة، ونسمعها لأول مرة، ونضحك تلك الضحكات البريئة، أو نتحسر بعمق ساذج على بعض المواقف المؤلمة وكأننا نعيشها الآن. طالت غربتى خارج أرصفة شوارع مصر التى كانت المكان الافتراضى المفضل لوجودنا، حيث نلاحظ الحياة ونتابعها وهى تتدفق فى الشوارع دون أن نشارك فى صنعها، وانما نعلق عليها مرة بسخرية وأخرى بألم.

من المستحيل أن يستوعب عقلى أننى لن أختزن حكايات الأيام القادمة لأشارك شقيق روحى هانئ رسلان فيها، لأنه اختار أن يتركنى ويرحل. هذه الحكايات اذن لا قيمة لها، ولا قيمة للمواقف والاحداث التى تشكل بنيتها، لأنها لن تُقال، ولن تُسمع بعد اليوم؛ بل سيكون مصيرها النسيان وقت حدوثها، بل إن عدم وقوعها أفضل.

كنا ندخر رصيدا ضخما من الخبرات والتجارب، والحكايات للزمن القادم حين نتقاعد ونجلس فى استرخاء نعيد ونستعيد تلك اللحظات التى عشناها معا أو عشناها منفردين، لنعيشها مرة أخرى معا غير منفردين، كنت أنتظر لحظة العودة الى مصر حتى نعيش الزمن الذى حلمنا أن نعيشه، ونجلس فى الأماكن التى حلمنا أن نجلس فيها معا... كنت وكنت؛ وكان وكان ثم جاءت حقيقة الموت لتضع كل شيء فى خبر كان، فلا كينونة بعد اليوم، ولا كان ولا كنا، وانما افتراق بعمق الآفاق، وطولها، وارتفاعها بين من دفن فى البر الغربي، ومن يتخبط فى البر الشرقي، وبينهما برزخ عظيم.

هانئ رسلان كما تحب أن تسميه والدته حفظها الله وأنزل على قلبها سحائب الصبر والرضا والرضوان، وليس هانى رسلان كما يناديه كل من يعرفه, هو الصديق الذى تتجلى روحى معه، وتخرج نفسى كل ما فيها، ويبوح قلبى بكل خباياه؛ دون أن يشعر أنه امام احد غير مرآه ذاتي، هو أنا، وأنا هو روح واحدة لها وجهان يتفقان ويختلفان، ولكن لا يتفارقان ولا يفترقان. فيه ومعه تتحقق معانى الصداقة الصادقة الصدوقة، لذلك كنا ننادى بعضنا يا شقيق الروح.

تباعدت بيننا المسافات، وأحيانا تتطاول الأزمان دون لقاء، ولكن التواصل والاتصال، والحضور الدائم لم ينقطع لحظة، فحين أعيش لحظة سعيدة أتمنى أن أكررها معه، وأحرص أن أقصها عليها عبر الهاتف، أو حين نلتقي، كذلك حين تمر لحظة حزن، او مواقف مؤلمة يتم اختزانها فى صندوق الحكايات الذى سوف يفتح فى أول لقاء أو اتصال.

رحل هانئ رسلان وتركني، وفى آخر رسالة قبل انتقاله بيومين يؤكد لى أن كل شيء بخير، وأن الأمور تتحسن. لم أحضر لحظة الدفن، ولكن أخى كان موجودا، وحضرت العزاء حيث الآلاف من أبناء محافظة قنا توافدوا على ساحة العائلة فى دندرة، ولكننى لم استطع أن أصدق ولن استطيع أننى لن أكلم هاني، ولن أراه ثانية، هذه حقيقة خادعة لا يستطيع عقلى استيعابها، رغم كل الشهود، ورغم كل الوقائع عقلى وقلبى ووجدانى أغلق الباب بإحكام على قبول تلك الحقائق المخادعة.

الوجود الناقص هو انعدام كامل للوجود، وقبول رحيل شقيق الروح وجود ناقص، وقبول العدم مستحيل، لأنه نفى للوجود الذى ندعى أننا نعيش فيه، وأخى هانئ، شقيق الروح هناك فى البر الغربى بجوار معبد دندرة حيث تلتقى عوالم الأرواح لكل الموحدين فى الكون من إخناتون الى المسلمين، البر الغربى مقر الخلود عند قدماء المصريين، وفى البر الغربى دندرة مقر الأسرة الدندراوية الصوفية السنية النقية، فى البر الغربى يستريح شقيق الروح، وستلتقى الأرواح طوال الزمن القادم الى أن تجتمع اجتماعاً لا فراق بعده؛ لقاءً الوفاء للصداقة والأخوة؛ حيث امتداد روحه فى أولاده وحضورها فيهم، وحيث اجتماع روحه وروحى فى حفيده الأول وحفيدى الأول يحيى عمر رسلان، فى وجه يحيى حياة هانئ رسلان وروحه وروحانيته وهدوؤه وبهجته الدائمة ورضاه الكامل.


لمزيد من مقالات د. نصر محمد عارف

رابط دائم: