إذا كان المسرح هو فن التفاعل الحى بين الجمهور والممثلين فى حالة أداء درامى، فإن الميكروتياترو تجربة مسرحية إسبانية استطاعت أن تضع المتفرج فى وضع أكثر حميمية، تفاعل، انتباه، تركيز ومشاركة فى الحدث الدرامى مع الممثل من خلال إبداء رأيه وتوجيه الحدث بناء على هذا الرأى.. وهى فلسفة كشفها عرض «السؤال الأخير» الذى تابعناه فى افتتاح الملتقى الدولى الثانى للميكروتياترو بأكاديمية الفنون.. تأليف الإسبانى نانشو نوبو.. إخراج د. جمال ياقوت.. بطولة د. نبيلة حسن ــ مترجمة النص أيضا ــ ونور الصيرفى.
منذ اللحظة الأولى للعرض يطبق المخرج شروط الحميمية اللصيقة.. فيجلس الجمهور فى غرفة مغلقة لا تتسع لأكثر من خمسة عشر فردا فى وضع مائل يحتوى الحالة التمثيلية المطروحة وليس فى الوضع المستقيم المعتاد، ثم تنطلق الأحداث فى توتر شديد بدءا من أزمة أُم تشارك فى برنامج للمسابقات بعنوان «السؤال الأخير» وتصارع باستماتة من أجل الحصول على أعلى جائزة مالية ممكنة فيه.. وهو ما يدهش مقدم البرنامج.. ويظن مع إجابتها لكل سؤال أنها ستكتفى.. ولكنها تفاجئه بإصرارها على الاستمرار.. حتى يأتى موعد السؤال الذى ستحصد معه رقم المليون..
وخلال الفاصل تطلب الأم الذهاب لدورة المياه، ويتلقى المذيع اتصالا من صاحب القناة يهدده فيه بأنه فى حالة فوز المتسابقة سيفقد المذيع وظيفته.. فتتعقد الأحداث وتعود الأم ليدور حوار بينهما نكتشف من خلاله أنها لا بديل عن حصولها على هذا المال لأن لديها ابن يحتاج لجراحة دقيقة ستنقذه من الموت.. هنا يبدى المذيع تعاطفه معها ويخبرها أنه سيخبرها سرا بإجابة السؤال رغم تجاوزه لشرف المهنة.. وهنا تتجه الأم فورا للجمهور طالبة الاستعانة برأيهم، فهل تثق فى تعاطف المذيع وتستجيب لإجابته أم أنه تعاطف زائف بسبب خوفه على مهنته؟! وتستجيب الأم لرأى الجمهور مهما كانت النتيجة.. وتنتهى الحلقة قبل اعلان فوز المتسابقة من عدمه لتنتهى معها أحداث العرض ويبقى الجمهور فى حالة تساؤل محير وصدمة ذهنية تدفعه لإعادة النظر فى قيم إنسانية مختلفة.
غلف المخرج د. جمال ياقوت القاعة بأوراق «مكرمشة» بلون رملى توحى بحجرية وصلابة الرأسمالية تجاه الإنسانية.. واستخدم خلفية الممثلين كشاشة أسقط عليها أسئلة البرنامج عبر جهاز بروجكتور.. وأحاطها بموسيقى الترقب والتوتر المتعارف عليها فى مثل تلك البرامج والتى تناسب أيضا الحالة النفسية للمتسابقة.. ولعبت د. نبيلة حسن دور الأم بحالة أدائية تتأرجح بين الضيق والتوتر طوال الوقت حتى خرجت فى النهاية من الشخصية حين طلبت مساعدة الجمهور بابتسامة واضحة ثم تدخل مرة أخرى الشخصية لتلقى اجابتها.. وساهم فى توصيل رسالة العرض حالة التضاد الشديدة بين أدائها وأداء نور الصيرفى الذى لعب شخصية المذيع بهدوء وثقة شديدتين.. حتى فى محاولة اقناعه بتعاطفه معها.. وهو ما ضاعف من حيرة الجمهور.. وفى تصورى أن كليهما ممثلان من طراز فريد لم ينالا قدرهما الكافى بعد فى الدراما المسرحية والتليفزيونية أيضا.
تختلف تجربة الميكروتياترو عن عروض الفرجة المعروفة أو حتى المسرحيات القصيرة فى كونها أكثر تكثيفا على مستوى كتابة النص المسرحى.. فيلجأ كاتبها إلى البدء بأزمة درامية مباشرة ثم الوصول إلى تحول درامى واضح فى حياة الشخصيات بنهاية العمل التى لا تتجاوز 15 دقيقة.. وقد تم بالفعل تجسيد بعض النصوص المصرية خلال الملتقى هذا العام وهى نتاج ورشة تأليف أشرف عليها د. جمال ياقوت.. وهى عموما تجربة تستحق أن تتبناها مؤسسات المسرح الرسمية والخاصة أيضا لأنها لا تحتاج مواصفات الإنتاج الباهظة، وتحل كذلك أزمات تشغيل العديد من الممثلين والكتاب والمخرجين.. كما أنها يمكن ببساطة أن تكون مدخلا مؤثرا وفعالا للمسرح داخل المدارس والجامعات بسهولة ويسر لأنها تعتمد على الأداء التمثيلى والنص المكتوب دون الحاجة لعناصر الإضاءة والديكور المعروفة.
رابط دائم: