تَصدم المرء أحيانا أقوالُ أو أفعالُ لا يقدر على تفسيرها ولا يحاول، لأنها ببساطة تصيبه بالعته وخلل فى الفهم، مثلما يصدم توك توك مواطنا يمشى على الرصيف فى حاله، وهذا ما حدث لى قبل أسبوع حين قرأت تصريحا للدكتور مصطفى الوزيرى أمين عام المجلس الأعلى للآثار، يقول فيه إن اختيارا قد وقع على مساحة نصف فدان من حديقة الأسماك الشهيرة، لتتحول إلى جراج..
خلل الفهم ليس سببه شذوذ الفكرة أو إنكارها، أو أو..ولكن العجز المشين فى الربط بين أمانة المجلس الأعلى للآثار وجراج فى حى الزمالك بالقاهرة، وهو عجز يشكك الإنسان فى عقله إلى حد التساؤل الملح: هل هو فى حاجة إلى طبيب مخ وأعصاب يشخص له أسباب عجزه عن إدراك العلاقة الغامضة بين أشياء تبدو غريبة عن بعضها؟!
لكن الحل الأسرع والأبسط دون أى تكاليف علاج وأطباء هو الرجوع إلى قرار تأسيس المجلس الأعلى للأثار، فربما أُوكل إليه تخطيط جراجات حديثة على حدائق تاريخية، وجنينة الأسماك عمرها 144 سنة، وكانت جزءا من مشروع الخديو إسماعيل لتحديث بعض من القاهرة على الطراز الأوروبى، فهل عثر المجلس على فكرة صفراء تجمع بين عشوائيات العصر والحديقة الأثرية فى مكان واحد؟
لحسن الحظ يخلو قرار التأسيس الصادر من رئيس الجمهورية فى عام 1994، من أى رابط بين المجلس وجراج عشوائى وجنينة الأسماك، بل حدد وظيفة المجلس بدقة وهى رعاية شئون الآثار التى يستحيل أن يكون الجراج منها، فالجراج تعبير لم يعرفه المصريون طوال تاريخهم حتى نهايات الثلث الأول من القرن العشرين.
إذن من أين جاءت العلاقة الغامضة؟
قال الدكتور مصطفى: إن أحد المستثمرين سيقوم بعملية تطوير كاملة للحديقة، وعمل كافتيريات ومطاعم، وهو ما سيجعل الزيارة لها فى تزايد.
هل هذا سبب يجعلنا ندمر نصف فدان من حديقة انشأناها فى عام 1867 حتى لو كانت هذه المساحة خالية من الأشجار النادرة كما قال، مع العلم أن هذا الوصف خادع يشبه الدافع فى جرائم الثأر؟
يكمن السر فى هوجة الكافتيريات والمطاعم التى ضربتنا منذ سنوات طويلة، وزحفت ومازالت على الخضرة وشواطئ الإسكندرية والمدن الساحلية وضفاف النيل..الخ. وأصلا هل المجلس الأعلى للآثار له حق القرار وهو لا يملك الحديقة ولا يديرها؟
بالفعل حين هاجت الدنيا وماجت، أسرعت وزارة الزراعة المالكة بتفكيك اللغط ونفت على لسان وزيرها السيد القصير أى مخططات لاقتطاع مساحة من الحديقة، بل وراح الوزير يتجول فيها ومعه كبار موظفيه. مهم جدا ما فعله وزير الزراعة، لتهدأ خواطر أهل مصر وتطمئن قلوبهم بأن يد العشوائيات لن تقترب منها بأى سوء. نعم سكان مصر فى حاجة إلى ما يزيل مخاوفهم من غارات تتارية تُشن من آن لآخر على الحدائق والأشجار والخضرة وأى مساحات فضاء، كما لو أن تنظيما عاشقا للأسمنت والأعمدة الخرسانية قد تسلل إلى حياتنا، يستهويه القبح ويوجعه الجمال، يحب التلوث وعوادم السيارات ويعادى النقاء ورائحة الزهور، مهمته جز عنق كل شجرة باسقة، وإسالة دماء أى حديقة عامرة، مع أن الأسمنت والطوب والخرسانات وحدها دون خضرة تحيطها لا تقل جفاء عن الصحراء الجرداء التى بلا كلأ أو ماء. زمان وهى كلمة كريهة، لكن للأسف نضطر إلى استخدامها، كنا نقطع طرق مصر جنوبا وشمالا، شرقا وغربا بين المحافظات والمدن والقرى بين خمائل من أشجار التوت والجميز والكافور والسنط، وكانت تتمايل على الترع والمجارى المائية شجرة فى غاية الجمال نعرفها باسم شعر البنات، تتدلى فروعها فى المياه مثل شعور البنات الطويلة بعد تسريحها، أما الآن فالطرق صلعاء إلا نادرا، ولا شعر بنات فى الدلتا ولا فى غيرها. وهذا التنظيم بدأ سريا حتى أوائل التسعينيات من القرن الماضي، بالسطو على أحواش المدارس وملاعبها، وتجريف الأرض الزراعية، وقطع الأشجار لتوسيع بعض الطرق، إلى أن أزال الأقنعة وأعلن صراحة عن موافقة الحكومة على تخصيص خمسة آلاف متر مربع، من حديقة المسجد الأقصى بحى المهندسين، لبناء ناد اجتماعى لأعضاء نقابة المهندسين.
تركت الحكومة كل الصحراء المحيطة بالقاهرة الكبرى شرقا، سواء فى مدينة نصر أو النزهة الجديدة أو غربا فى 6 أكتوبر، وقررت تجريف أكثر من فدانين من الحديقة التى تكاد تكون متنفسا نادرا فى منطقة مكدسة بالسكان..هذه عقلية خطيرة على الحياة. الجميل أن سكان المنطقة لم يسكتوا، وسلكوا كل الدروب القانونية حتى رحل الكابوس التجريفى عن الحديقة، ولعب (الأهرام) وقتها دورا معاونا فى صد الغارة التتارية. وهو ما يحاوله سكان مصر الجديدة الآن، لحماية حيهم من تجريف الخضرة، خاصة فى حديقة الميريلاند، وأشجار شارع نهرو وما تبقى من أطلال حديقة شارع غرناطة التى حفرها المستثمر وتركها على هذا الحال لأكثر من 8 سنوات، شاهدا على ما نرتكبه ضد أنفسنا، ويفكر فى تحويلها إلى مول، ويستعد السكان حاليا لرفع قضية على محافظة القاهرة. أما مؤسسة تراث هليوبوليس فقد أصدرت بيانا يناشد فيه السكان الحكومة بعدم استقطاع أو تدمير أى جزء من حديقة الميريلاند رئة الحي، أو جزيرة شارع نهرو، ويطلبون إعادة حديقة غرناطة إلى ما كانت عليه، وكفانا مولات ومحال تجارية، ويشتكون من تفشى ظاهرة الباعة الجائلين ومواقف الميكروباص العشوائية وتحويل الشقق السكنية فى منطقة روكسى والشوارع المحيطة بها إلى محال ومخازن، ناهيك عن استيلاء المحال على الأرصفة وواجهات العمارات.
هذه مشاهد صارخة من العدوان على الخضرة والأشجار، وقطعا نحن مع تطوير الطرق والحدائق، لكن ليس بالجراجات والكافيتيريات والمطاعم، إنما بتحسين البيئة وإشاعة الجمال، لأن القبح هو أصل العنف.
لمزيد من مقالات نبيل عمر رابط دائم: