>> وقت الشدة يظهر المعدن المصرى المتميز.. وتظهر الأصالة والشهامة والجدعنة والمروءة والتضحية.. ويتجلى الحب والتعاون والتكاتف والترابط والتفاهم والنظام والالتزام والفداء وكل ما هو جميل فى الخصال البشرية...
وقت الشدة هذا.. عاشته وعايشته مدينة السويس سنوات.. من بعد هزيمة يونيو 1967 وخلال حرب الاستنزاف إلى حرب أكتوبر وحتى وقف النيران فى يناير 1974.
فى هذه السنوات الأصعب.. مدينة السويس أثبتت أنها أيقونة صمود عالمية.. بشوارعها وترابها وسمائها وهوائها ومياهها وبيوتها ومنشآتها وكل ما فى داخلها ويعيش تحت سمائها وفوق أرضها.. كلها قلاع فداء.. ومستشفى السويس العام فى مقدمة هذه القلاع.. بما قدمت من ملاحم العطاء غير المحدود.. به ومعه.. ارتقى هذا المستشفى ولم يعد مجرد كيان علاج.. إنما قبلة ومقصد لكل أهل السويس.. الأصحاء قبل المصابين والمرضى.. فى مقر العزيمة والإصرار والثقة والصمود.. مع الرجل الذى تولى قيادة هذا الصرح وتلك الملحمة.. الدكتور محمد أيوب ومعاونه وذراعه الأيمن د. إبراهيم عفيفى.. وفريق الأطباء والتمريض العظيم من طب قصر العينى وطب عين شمس وطب الإسكندرية وطب الأزهر.. استشاريى وزارة الصحة...
مستشفى فى قلب خط النار لا يوجد غيره فى المدينة المحاصرة.. المحاصر معها المستشفى بعد انقطاع الإمدادات الطبية والغذائية والإدارية عنه.. ضمن إجراءات حصار العدو للمدينة.. أملًا فى سرعة استسلامها وانتظارًا لخروج هذا المستشفى خارج الخدمة مع قطع الإمدادات عنه.. لكن أمل العدو لم يتحقق.. ولا السويس وقعت ولا المستشفى توقف.. لأن وقت الشدة تتجلى القدرات المصرية العبقرية!.
السويس التى تعرضت لغارات طيران وقصف مدفعية.. لم تتعرض مدينة فى حرب لمثله!. القصف الوحشى المستمر من 14 أكتوبر وحتى 24 أكتوبر.. مفروض وفقًا لمعدلات القصف التى تمت.. ألا يبقى كائن حى يتحرك على أرض السويس.. وهذا ما أراده العدو قبل أن يحتل المدينة بقواته البرية.. فماذا حدث؟.
فى كل مرة تتقدم فيها الدبابات صوب السويس.. ما إن تدخلها.. تنشق الأرض وكأن المصريين احتموا بجوفها من الطيران والمدفعية!. تنشق الأرض عن المقاتلين المصريين.. مدنيين وعسكريين ويدمرون المدرعات ويقتلون أطقمها!. الأمر تكرر عدة مرات من 14 أكتوبر إلى أن عرف العدو أن الله حق.. وأن سقوط السويس مستحيل طالما هؤلاء الرجال على أرضها.. رجال محصنون ضد الخوف.. قصف العشرة الأيام لم ينل منهم!. العدو عرف الحقيقة بعد أن خسر فى محاولة 24 أكتوبر 200 قتيل وجريح ولجأ إلى الصليب الأحمر لينقذ جنوده المحاصرين فى بيوت السويس!.
العشرة أيام قصفًا للسويس هذه.. نتائجها أول من يتحملها مستشفى السويس العام الذى عليه أن يستقبل أعداد جرحى غير مسبوقة فى ظروف حصار جردت المستشفى من أغلب المستلزمات اللازمة لإجراء الجراحات والعلاج.. إلا أن!.
غرفة العمليات لم تتوقف لحظة.. لا ليلًا ولا نهارًا.. رغم الكهرباء المقطوعة والأدوية الشحيحة والإمكانات المتراجعة!. المستشفى لم يتوقف عن رسالته الطبية ولم يتراجع عن رسالته غير الطبية.. مركزًا للطاقة الإيجابية ورفع معدلات الروح المعنوية ومنارة للإبقاء على الوعى فى أعلى معدلاته...
الأسبوع الماضى طرحت جزءًا من تفاصيل هذه الملحمة.. استنادًا إلى المعلومات التى تركها د. محمد أيوب فى أوراقه الخاصة.. واللقاءات المباشرة التى سجلها د. ياسر أيوب مع أغلب من عاصروا هذه الملحمة.. واليوم أكمل هذه التفاصيل فى النقاط التالية:
> > جاء يوم 25 أكتوبر.. وهو اليوم الثانى على التوالى الذى لم تر فيه السويس النوم.. ومن يقدر على إغماض عينيه يوم 24 الذى بدأ القصف فيه بالطيران والمدفعية من الفجر حتى الظهر.. وعندما توقفت الصواريخ والقنابل والدانات عن السقوط على السويس.. بدأت المدرعات بريًا هجومها الذى انكسر فى ميدان الأربعين.. لكن إطلاق النيران استمر طوال الليل لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من جنودهم الشاردين فى السويس!.
الذى لم يعرفه العدو.. أن السوايسة تطعموا ضد الحرب!. السوايسة يعلمون أن قصف الطيران والمدفعية.. بعده يأتى الهجوم البرى بالدبابات!. السوايسة الذين لم يسمعوا يومًا عن الخوف.. غارات الطيران زادتهم إصرارًا!. السوايسة نصبوا فخًا للمدرعات التى جاءت تحتل السويس.. وجعلوا أطقمها قبل أن يموتوا.. يندمون على اليوم الأسود الذى دخلوا فيه السويس!. إطلاق النار لم يتوقف لحظة من فجر 24 أكتوبر إلى قرابة فجر 25 أكتوبر!. الإصابات لا تحصى والجرحى تعذر نقلهم وإطلاق النار مستمر.. والكل لم ير النوم من فجر 24 أكتوبر.. وجاء فجر 25 أكتوبر.. والمطلوب فى الساعات المقبلة نقل الجرحى من أرجاء السويس إلى المستشفى.. هذه واحدة والثانية.. بدء تجميع جثث الشهداء لأجل إجراءات دفنهم...
أهالى السويس بدأوا يتوافدون على المستشفى لأجل المساعدة.. لأن المستشفى يعانى من نقص الدم ونقص فى كل المستلزمات الطبية.. والعاملون بالمستشفى تبرعوا بكل ما يقدرون عليه من دمائهم!. بدأ الأهالى فى التبرع بالدم وفى أعمال النظافة وفى أى عمل يكلفون به!. امرأة حامل تقوم بالتمريض.. بنات فى عمر الزهور يتبرعن بدمائهن.. الكل يعمل.. الكل يعطى.. الكل واثق.. الكل يشعر بالفخر كل الفخر.. بصد العدو ومنعه بالقوة من احتلال السويس!. فرحة الناس بالنصر أنستهم الأهوال التى عاشوها ثلاثة أيام على التوالى!.
> > محاولات العدو المستميتة لإسقاط السويس واحتلالها.. والانتصار الأسطورى للسويس على العدو وتكبيده خسائر فادحة وإجباره على الهروب من السويس ونسيان فكرته البائسة باحتلالها والخسائر التى وقعت والجرحى الذين تزايدت أعدادهم والشهداء الذين حالت العمليات دون دفنهم والنقص الحاد فى الأدوية والمستلزمات والمواد الغذائية وانقطاع المياه والكهرباء.. كل هذه الأحداث السريعة المتتالية.. جاءت فى الأيام الأخيرة من شهر رمضان.. وكان الجمعة 26 أكتوبر أول أيام عيد الفطر المبارك.. الذى لم ينسه المستشفى.. الأطباء والعاملون وأهالى السويس الموجودون.. أدوا صلاة العيد خلف د. محمد أيوب الذى ألقى خطبة العيد التى حملت التهنئة بالانتصار الذى تم قبل أن يرحل رمضان.. والتهنئة بالعيد والتذكير بأن المعركة لم تنته.. وإن كانوا قد فشلوا فى احتلال السويس.. فلن يشفى غليلهم إلا «دك» السويس.. من بعيد لبعيد.. بالصواريخ جو أرض والقنابل من خلال غارات الطيران.. وبدانات المدفعية الثقيلة بعيدة المدى!. غارات الطيران وقصف المدفعية.. بات مكررًا يوميًا لساعات.. على أمل كسر قلعة الصمود.. لكنه أمل إبليس فى الجنة.. وكيف تقع السويس وعلى أرضها هؤلاء الرجال الذين لا يعرفون يعنى إيه خوف!.
> > حالة الجنون التى انتابت العدو بقصف السويس يوميًا.. جزء منها ما حدث لمدرعاته عندما حاولت اقتحام السويس.. والجزء الآخر بسبب حرب الاستنزاف الثانية (80 يومًا) التى تقوم بها القوات المصرية التى تحاصر العدو فى الثغرة!. يوميًا على مدار الساعة.. عمليات فى منتهى الشجاعة وغاية فى الجرأة.. من البر ومن البحر وفى النهار والليل على العدو فى شريط الثغرة الذى ورط العدو نفسه فيه!. حرب الاستنزاف الثانية التى استمرت 80 يومًا.. هدفها منع العدو من تعديل أوضاعه وتحسين مواقعه.. وأن تبقى قواته فى الثغرة.. شاغلها الأوحد ضمان البقاء حية!. حرب الاستنزاف هذه.. لم يكن فى مقدور قوات العدو فى الثغرة الرد عليها حتى لا تكون مبررًا لقواتنا فى التصعيد.. وأى تصعيد يضر العدو.. لأن قواته محاصرة فى مساحة أرض أغلبها هضاب.. ونقاطه التى يحتلها متداخلة مع النقاط التى تحتلها القوات المصرية.. وهذا معناه أن أى تصعيد لا يوجد فيه طيران ولا مدفعية لتداخل القوات.. ولا مدرعات لطبيعة الأرض.. وعليه!.
التصعيد إن تم.. ستكون معركة رجل لرجل.. وهذا ما كنا والله نتمناه وما كان العدو يتلافاه.. ولذلك!.
العدو كان ينتقم من معارك الاستنزاف.. بقصف ودك السويس يوميًا.. بالطيران والمدفعية.. فهل نجح فى مبتغاه وكسر السويس؟. لا والله.. هو نجح فقط فى تدمير البيوت والمنشآت وتدمير البنية التحتية.. أما الروح المعنوية.. فهى فى السماء.. وكيف لا تكون والسوايسة عَلِّمُوا على مدرعات الجيش الذى لا يهزم ودمروا منها 20 على غفلة.. وباقى الدبابات ما بطلتش جرى إلا فى العريش!.
> > العدو محاصر السويس.. لكنه فشل فى كسرها أو استسلامها لأن الصمود له رجاله!. فى المقابل القوات المصرية أطبقت حصارها على العدو فى الثغرة.. وبدأت حرب استنزاف ثانية ضده.. حرب نجح جيش مصر فى فرض إرادته فيها وعليها!. تسألون حضراتكم كيف؟.
> > لأنها المرة الأولى من عام 1948 العدو هو الذى يطلب الجلوس والتفاوض!. محادثات الكيلو 101 وما بعدها.. هم من ضغطوا على أمريكا وتحديدًا وزير خارجيتها كيسنجر.. لأجل الجلوس والتفاوض!. والله لو استمر حصارهم للسويس العمر ما كانوا نالوا من السويس!. نعم كان هناك حصار على السويس.. ونعم الأخرى.. أنه كان هناك اختراق يومى لهذا الحصار!. ومن بإمكانه أن يحاصر المصريين فى مصر؟. إنه جيش مصر «خير أجناد الأرض» يا سادة!.
> > مع بداية المفاوضات التى جرت.. دخل الصليب الأحمر إلى السويس لأجل مستشفى السويس.. ومعه زاد من الدواء والمعدات الطبية.. وتم نقل كثير من الجرحى الذين تستدعى حالتهم استكمال العلاج فى القاهرة..
ولأول مرة من أيام طويلة.. يغادر بعض الأطباء المستشفى إلى المدينة.. وشاهدوا الدمار الذى حدث لبيوت السويس.. والدبابات المحروقة فى ميدان الأربعين.. مشاعر حزن على الدمار وفرحة بالانتصار.. تذكر الجميع أنهم جوعى «جعانين».. وبدأ البحث عن الطعام.. وكانت أول وجبة ساخنة يتناولونها من أيام بعيدة هى الطعمية!. الكل تعلم الوقوف فى طابور لأجل الحصول على الطعام.. إنها الحرب التى تفرض النظام على الناس!.
يوم 30 أكتوبر مستشفى قام بتطعيم الموجودين فى المدينة من مدنيين وعسكريين.. ضد الجدرى والتيفود والكوليرا.. وبفضل الله لم تظهر حالة واحدة طوال الحصار!. الكيماوى عبد الله العدوى.. أقام بصفة دائمة فى محطة المياه طوال الحصار.. خشية قيام العدو بتلويث المياه!. وبالمناسبة.. المياه أصبحت أزمة مستحكمة من أول نوفمبر.. لأن مخزون المياه الرئيسى لمحطتى جنينة وكبريت أهدره العدو يوم 21 أكتوبر.. وأصبح المتبقى فى هيئة قناة السويس وترعة الإسماعيلية!.
الأزمة تم إدارتها جيدًا.. والأولوية فى المياه للمستشفى بواقع لتر ماء لكل مريض يوميًا.. والمياه المالحة تستخدم فى النظافة وخلافه.. والمياه المالحة كانت تنقل فى جراكن على ظهر «بغل» للمستشفى!.
> > يوم 16 نوفمبر تم نقل عدد من الجرحى للقاهرة.. وفى هذه الفترة تزايدت عمليات حرب الاستنزاف ضد العدو فى الثغرة.. والعدو كل ما يملكه ضرب السويس والمزيد من الحصار!. عاد القصف مرة أخرى.. فى ظل وقود قارب على النفاد.. والموجود منه لماكينة الإنارة لأجل العمليات.. أما المطبخ لا سبيل إلا خشب الأشجار لطهو الطعام.. والمشكلة لم تكن فقط فى الخشب والطهو إنما فى نقص الطعام!.
فى الحياة الطبيعية.. الاستحمام مرة على الأقل كل يوم وغسيل الوجه مرات لا مرة.. لكن فى الحرب إنسى!. أطباء مستشفى السويس لم يستحموا إلا مرة واحدة فى الـ100 يوم!. أما غسيل الوجه مرة كل كام يوم.. بفوطة مبللة يمسح بها الوجه.. لأن رفاهية غسل الوجه بالمياه والصابون مستحيلة!. الأطباء رغم الظروف المستحيلة البالغة الصعوبة.. كانوا حريصين على الاحتفال بأى مناسبة للإبقاء على الروح المعنوية عالية فى قلب السويس النابض مستشفاها الذى أصبح منارة وعى ومركزًا للطاقة الإيجابية ومعملًا للإبقاء على الوعى فى أعلى معدلاته!. فى رأس السنة احتفلوا وفى عيد الأضحى.. اشتروا أضحية واحتفلوا بالعيد.. وهكذا سارت الأيام.. بأحداثها وتوتراتها وانفعالاتها وحكاياتها.. التى أسدل الستار عليها جميعًا.. لأن الحرب انتهت!. وفى فجر اليوم الذى فيه الحرب انتهت.. حياة قائد هذه الملحمة د.محمد أيوب انتهت!. شعر بدوار مفاجئ نتيجة جهد هائل مبذول على مدى 100 يوم فى ظروف هى بكل المقاييس مستحيلة!. عندما أسرع كل الأطباء محاولين إسعافه.. بنفس الابتسامة التى لم تفارقه لحظة قال: أنا راض عن نفسى.. وبعدها سكت إلى الأبد شهيدًا للواجب!. جاءت وفاته أكبر صدمة للسويس كلها التى أحبته وأحبها..
الكل داخل السيارات فى الطريق إلى القاهرة التى لم يروها من 100 يوم تتقدمهم أول سيارة تتجه إلى القاهرة بعد فك الحصار حاملة جثمان مدير المستشفى!. إنه آخر مشهد فى حكاية السويس!.
هذا المشهد.. أشار إليه الكاتب الكبير الراحل الأستاذ موسى صبرى فى كتاب «وثائق حرب أكتوبر» قائلا:
(ما أروع أطباء المستشفى كل طبيب كان هرمًا.. كل ممرضة كانت مصر. مدير المستشفى الشهيد الدكتور محمد أيوب.. بذل فى صمت.. عمل بأضعاف جهد سنة.. تحدى كل شىء.. أعطى دمه وعلمه وفنه وراحته...
وفى يوم فك الحصار.. كأنه شعر أن رسالته انتهت.. مات فجأة فى صمت.. كما كافح فى صمت.. كانت السويس تحتفل بانتهاء الحصار وكان جثمانه يخرج من السويس إلى القاهرة.. عندما بدأت الأفراح.. لم يعد له مكان.. يا مفارقات القدر).
...............................................
...............................................
السويس حكاية كبيرة.. بصمودها وأبطالها وبطولاتها وشموخها وكبريائها.. حكاية مايقدرش يعبر عنها الكلام.. حكاية كبيرة محفورة على جدران التاريخ.. محتاجة تكون على طول فى دائرة الضوء.. زادًا وزوادًا لكل جيل بعد جيل.. وإبقاء هذه المهمة فى دائرة الضوء.. هو قرار من السيد محافظ السويس بإطلاق اسم د. محمد أيوب على مستشفى السويس واسم د. إبراهيم عفيفى على أحد شوارع السويس.
للعـلـم
>> لا والله...
العزاء لنا جميعًا الـ 100 مليون مصرى ومصرية فى فقيدنا الغالى المشير طنطاوى رحمة الله عليه...
نعزى نفسنا.. لأننا كلنا فى رقبتنا دين للقائد الوطنى الشجاع.. إللى أنقذ مصر والمصريين من بحور دم.. مترتب تدفقها وقت ما تنجح الفتن فى إشعال الحرب الأهلية بين المصريين...
نعزى مصر.. بيوتها وشوارعها وأرضها وترابها ورملها.. وسماها وهواها والنيل إللى بيجرى جواها...
نعزيها فى ابنها إللى حافظ عليها وحماها.. من إرهاب «إخوانها» إللى اتمتعوا من خير أرضها وعاشوا تحت سماها...
يارب.. بقدر ما أعطى «أعطيه» عفوك ورحمتك ورضاك يا أرحم الراحمين.
لمزيد من مقالات إبراهيـم حجـازى رابط دائم: