>> الأسبوع الماضى توقفت عند رسالة المهندس مدحت أبوشنب من قلعة الصمود السويس.. التى قال لى فيها: إننى كتبت فى العام الماضى 20 حلقة عن حرب أكتوبر.. لكن تبقى الحلقة 21 عن آخر شهيد فى حرب أكتوبر.. الدكتور محمد أيوب مدير مديرية الصحة بالسويس وقت الحرب وهو والد الدكتور ياسر أيوب.. وفى نهاية الرسالة ترك رقم تليفونه وطلب الاتصال به...
اتصلت به وأكد لى ما جاء فى رسالته وأن الدكتور أيوب هو والد أخى وصديقى وزميلى فى الأهرام الأستاذ ياسر أيوب الذى لم يتكلم معى فى هذا الموضوع على الإطلاق.. وهو الذى يعرف خلفيتى العسكرية ومشاركتى فى حرب أكتوبر مقاتلاً فيها ومؤرخاً لأحداثها وبطولاتها وأبطالها.. فى خارج دائرة الضوء بالأهرام وفى برنامج دائرة الضوء بالتليفزيون...
على أى حال الرسالة أشارت إلى ملحمة صمود صغرى منسية لمستشفى السويس العام.. فى قلب قلعة الصمود الكبرى مدينة السويس التى خلقت لنفسها مكاناً ومكانة بين مدن العالم صاحبة الأرقام القياسية فى الصمود.. إنها السويس.. ستالينجراد الشرق.. التى خصص العدو لها.. من قبل حرب الاستنزاف.. أقوى نقطتين فى نقاط خط بارليف القوية لقصفها.. نقطة عيون موسى الموجود فيها أكبر قطع مدفعية للعدو التى داناتها تخطت الـ1000 رطل.. ونقطة لسان بورتوفيق التى تعد أكبر نقاط بارليف مساحة وتسليحاً.. أما غارات الطيران على السويس تحديداً فهى لا تعد ولا تحصى!.
السويس فى العشرة أيام من 14 أكتوبر وحتى 24 أكتوبر.. كانت هدفاً ثابتاً لطيران العدو بصواريخه وقنابله ولمدفعيته بكل الأعيرة.. جحيم نيران لا يتوقف من الطيران والمدفعية.. حتى لا تبقى حياة على أرض السويس.. ليه؟
ليه هذه.. لأن العدو وجد نفسه فى مأزق رهيب أمام العالم.. وهو الجيش الذى لا يهزم فى قناعة العالم.. لكن جيش مصر «أخده» على غفلة واقتحم القناة ومزق الساتر الترابى واستولى على ربع خط بارليف أقوى خط دفاع فى العالم فى أقل من يوم ونصف وتوغل فى سيناء.. ومعادلة هذا الانتصار المصرى الساحق.. لن تحدث إلا باحتلال السويس!. طيب إزاى؟.
هجوم مضاد بثلاث فرق مدرعة لن تتوقف مدرعاتها إلا غرب القناة بعد احتلال السويس ويا سلام لو الإسماعيلية!.
قاموا بالهجوم المضاد فعلاً يوم الاثنين 8 أكتوبر.. وانتهى بوكسة لمدرعاتهم وجنرالاتهم 400 دبابة تدمرت فى أقل من ساعة.. والقتلى والجرحى مئات.. وهم فى إسرائيل من أطلقوا على هذا اليوم «الاثنين الحزين»!. دباباتهم تدمرت فى سيناء ولم تستطع الوصول للسويس.. لكن الفكرة قائمة بل لابد من تنفيذها مهما حدث!.
وتوالت أيام الحرب.. ونجح العدو فى إحداث ثغرة بها أصبحت له قوات فى غرب القناة.. ومعها أصبح احتلال السويس تحديداً يقيناً لا يقبل أى شك عند العدو!.
شارون بفرقته المدرعة على مدى أيام 20 و21 و22 أكتوبر.. حاول احتلال الإسماعيلية.. وكل محاولة تبدأ بضرب الطيران والمدفعية للأرض التى تفصله عن الإسماعيلية.. والموجود فيها المجموعة 139 صاعقة التى يقودها العقيد أركان حرب أحمد أسامة إبراهيم.. والصاعقة ليس معها مدرعات ولا مجنزرات.. معها فقط سلاحها الخفيف مع الـRPG.. إلا أن قوتها داخل صدورها فى القلوب الشجاعة التى لا تعرف الخوف.. وبشجاعتها أنزلت خسائر هائلة فى فرقة شارون المدرعة.. التى آثرت السلامة وصرفت النظر نهائياً عن الاقتراب من الإسماعيلية.. حفاظاً على حياة مَنْ تبقى مِن جنودها على قيد الحياة!.
الفشل فى احتلال الإسماعيلية.. جعل فكرة إسقاط السويس مسألة حياة أو موت.. لأن سقوطها يغير مجرى الحرب.. وعليه لابد من احتلالها مهما تكن الظروف!. العدو جاءته أعظم فرصة مع قرار مجلس الأمن بوقف النيران يوم 22 أكتوبر!. فرصة عمر للعدو.. لأن سوابقه من عام 1948 تؤكد أنه فوق القانون وأكبر من مجلس الأمن.. ومن يقدر على مساءلته إن استغل وقف النيران واحتل السويس وحقق أهم هدف عسكرى على الإطلاق؟.
العدو كل ما يريده بضع ساعات فقط وينهى كل شىء!. ثقته تامة فى أن السويس بقبضته.. وكيف لا تكون وأكبر كم من الصواريخ جو أرض والقنابل.. تم ضربها بها؟. كيف لا تسقط ومعهم «أبو جاموس» وهو اللقب الذى أطلقه المصريون على مدافع العدو الثقيلة البعيدة المدى والتى معدلات دمارها أبعد من أى مدى!.
وبالفعل.. تمهيد مدفعية وغارات طيران على السويس.. لأجل ألا يبقى أى كائن يتحرك على الأرض.. وبعدها تحركت الفرقة المدرعة بقيادة الجنرال أدان.. لاحتلال السويس!. العدو يتقدم ويتخطى مشارف السويس إلى الداخل وكل شىء يوحى بأن الطيران والمدفعية قاما بالواجب وأهل السويس هجروها!. ثقة العدو تزيد وتزيد لأن الدبابات وصلت لساحة المحافظة وميدان الأربعين والسكون سيد الموقف وفجأة!.
فجأة هذه.. أترك الجنرال شموئيل جونين قائد الجبهة الجنوبية للعدو هو من يتكلم عنها.. وكلامه فى مذكراته المنشورة وفيها يقول: دخلنا معارك شرسة ومؤلمة خاصة فى مدينة السويس.. بهدف قطع خط إمداد مياه الجيش الثالث الذى يمر عبر المدينة!. كنا نعلم أنها مدينة خالية من السكان بعد 1967.. والقصف المتواصل لها قبل اقتحامها.. زادنا يقيناً باستحالة بقاء بشر فيها!. الحقيقة التى فوجئنا بها ولم نكن نعلمها وجود آلاف المدنيين والجنود!. المصريون أعدوا فخاً كبيراً لدباباتنا ومركباتنا وانقضوا علينا من داخل بيوت ومبانى السويس!. فكرة احتلال السويس كانت أسوأ ختام لنا فى الحرب!.
كلام جونين تلخيص لما حدث ابتداء من مساء 22 أكتوبر وحتى يوم 24 أكتوبر الذى تأكد فيه العدو أن نجوم السماء أقرب له من احتلال السويس!. السكون الهائل الذى كانت عليه السويس.. تحول فى لحظة إلى جحيم وفى أقل من نصف ساعة 20 دبابة إنحرقت وماتت أطقمها.. ومن جاءوا يحتلون السويس الرعب الذى رأوه جعلهم يفرون للاختباء فى بيوتها ومنشآتها!. الحملة الفاشلة كلفت العدو 200 قتيل وجريح ولولا تدخل الصليب الأحمر ما خرج المختبئون فى بيوت السويس على أقدامهم!.
............................................................
>> السطور الطويلة السابقة أردت بها رصد الحال الذى كانت عليه السويس يوم 24 أكتوبر بعد 18 يوم حرب.. الصواريخ والقنابل ودانات المدفعية التى سقطت على السويس.. أكبر من أن توصف.. ولنا أن نتخيل الدمار الذى سببته والإصابات التى نجمت والضغوط العصبية التى حدثت.. وكل ذلك فى الـ18 يوماً الأولى فى الحرب.. التى عاشتها السويس.. التى كان فى انتظارها 100 يوم أخرى حصارا.. إلا أن!.
الأيام الأصعب هى التى تقدم النماذج الأعظم المعبرة عن المعدن المصرى الأصيل!. السوايسة الذين رفضوا التهجير وبقوا فى السويس وعاشوا على خط النار وعايشوا حرب الاستنزاف وما قبلها وبعدها حتى حرب أكتوبر.. تلك الأيام بكل أحداثها.. كانت أعظم تطعيم فَجَّر الطاقات الكامنة للسوايسة.. وبها ومعها المدنيون باتوا فدائيين.. ومن أول يوم حصار أصبح مستشفى السويس العام قبلتهم والقلب النابض لمدينتهم الصامدة السويس!.
القصف الذى طال السويس طويلاً وقتل من قتل وجرح من جرح وخَرَّبَ ودَمَّرَ وفَرَّقَ.. والحصار الذى استمر ثلاثة أشهر وعشرة أيام.. فرض ظروفاً صعبة فى واقع مستحيل.. على الكيان الصحى الوحيد.. الذى لم يعد مجرد مستشفى للعلاج.. إنما القلب النابض والواحة المضيئة والملتقى الآمن ورمز الحياة فى مدينة الصمود السويس!.
كل المعطيات تؤدى إلى مشكلات مستحيلة!. الأدوية والمستلزمات الطبية لزوم الجراحات.. تتناقص!. المعدات الطبية كفاءتها تتراجع!. الأكل والشرب أصبحا واحدة من الأزمات!. رغم كل الصعوبات الهائلة تعقدت الأمور أكثر مما هى معقدة.. مع حرب الاستنزاف الـ80 يوماً للعدو فى الثغرة.. والتى كان مردودها وقف أى إمدادات طبية عن مستشفى السويس.. ورغم كل هذه المستحيلات.. بقى مستشفى السويس صامداً صمود مدينته السويس.. بفضل الله وفكر وتخطيط ومجهود الرجل الذى تحمل المسئولية بكل ضغوطاتها الرهيبة على مدى 100 يوم حصار وقبلها 18 يوماً من 6 أكتوبر وحتى 24 أكتوبر.. إنه الدكتور محمد أيوب.. الذى لاقى ربه فجر أول يوم سلام فى حرب أكتوبر.. كان أول شهيد فى أول يوم انتهت فيه الحرب!.
الملاحظات والخواطر والأحداث التى سجلها د.محمد أيوب فى أوراقه.. مع اللقاءات التى قام بها د. ياسر أيوب مع كل من عاصر والده وقت حرب الاستنزاف وحرب أكتوبر.. وما أخبرنى به تليفونياً د.إبراهيم عفيفى الذراع اليمنى للدكتور أيوب فى تلك الملحمة.. مجمل هذه المعلومات أقدمها لحضراتكم فى النقاط التالية:
1- الدولة لم تترك شيئاً إلا وخططت له قبل الحرب!. كل وزير أعطى تمام استعداد وزارته لما هو قادم!. وزارة الصحة خطها الأمامى على الجبهة.. المستشفى العام فى كل محافظة من محافظات مدن القناة!. مستشفى السويس العام.. تم تدعيمه بأربعة أطقم طبية من كليات طب القاهرة وعين شمس والإسكندرية والأزهر.. إضافة إلى أطقم تمريض.. نتكلم عن 72 طبيباً فى كل التخصصات و63 ممرضا..
ملحمة فداء طبية تولى د.محمد أيوب مدير مديرية الصحة قيادتها.. يعاونه مدير المستشفى وقتها د.سمير شوكت ومعه د.إبراهيم عفيفى نائب مدير المستشفى.. الذى تحول بالتدريج إلى القائد الحقيقى للمستشفى مع الدكتور أيوب..
نعم.. الأحداث أظهرت المعدن المصرى الأصيل! يوم 23 أكتوبر والعدو يقصف السويس جواً بالطائرات وبراً بالمدفعية ويعاود ما بدأه قبل 22 أكتوبر.. محاولة دخول السويس واحتلالها بالفرقة المدرعة التى يقودها الجنرال أدان والتى وصلت مدرعاته حتى ميدان الأربعين.. فى هذه الساعات الفارقة.. كان جزء من الأطباء والممرضات فى إجازة.. وما إن سمعوا البيانات العسكرية والقصف الذى تتعرض له السويس.. قطعوا الإجازة ليكونوا مع زملائهم!. عادوا للسويس بعد رحلة عذاب نتيجة إغلاق طريق السويس!.
2- النيران التى لم تتوقف لحظة من يوم 22 أكتوبر.. والأوضاع الناجمة عن تحركات العدو فى الثغرة.. نتج عنها مئات الجرحى فى المستشفى ومئات النازحين من المزارعين الذين تركوا بيوتهم وحقولهم.. جزء منهم أقام فى مسجد الشهداء والجزء الآخر لم يجد إلا المستشفى مأوى له ليصبح د.أيوب مسئولاً عن علاج كل جريح ومسئولاً عن حل الأزمات التى نتجت عن انقطاع الكهرباء والمياه عن المستشفى.. وتلك مأساة لأن هناك غرفة عمليات لا يتوقف العمل بها!. ومسئولاً عن تدبير وجبات غذاء لكل من فى المستشفى!. ومسئولاً عن إقامة كل من احتمى بالمستشفى!. كل هذه المسئوليات.. ضغوط عصبية يتحملها من تحمل المسئولية.. د.أيوب.. الذى يعلم أن الأصعب لم يأت بعد.. ومواجهته والتغلب عليه ممكن بالتكاتف والتعاون وتنظيم العمل وتحديد المهام!.
3- الأربعاء 24 أكتوبر.. ربما يكون أطول يوم مر على السويس ومستشفى السويس!. المدينة التى ودعت يوماً عصيباً.. استقبلت بعد الفجر بقليل بوادر يوم أصعب مع دانات المدفعية الثقيلة وصواريخ الطائرات وقنابلها!. العدو جن جنونه لفشله فى احتلال السويس يوم 23 أكتوبر وليس أمامه إلا ساعات قليلة.. عليه فيها إخضاع المدينة العصية.. والقصف الهائل هدفه القضاء على أى مقاومة محتملة للمدرعات التى بها يريدون احتلال السويس!.
كل من فى المستشفى ــ يمكن تحركه أو نقله ــ انتقل للدور الأرضى فى حالة لا توصف من المعاناة والألم.. أجساد تتألم من جراحها.. لكنها لم تفقد للحظة يقينها وإرادتها ومصريتها.. واكتملت الصعوبات بانقطاع المياه التى كانت الكهرباء قد سبقتها فى الانقطاع.. ومع ذلك لم تتوقف غرفة العمليات لحظة.. لمبات الجاز موجودة وتؤدى الغرض!.
الأخبار تتوارد عن اقتحام العدو للسويس.. وقبل أن يطل الخوف برأسه.. ميكروفون يطوف بأرجاء السويس يذيع الأغانى الوطنية.. وأغنية يا بيوت السويس يسمعها كل من فى السويس لا المستشفى وحده.. فى هذه اللحظات.. لحظات ساعات صباح 24 أكتوبر.. تحول مستشفى السويس من مجرد مكان للعلاج إلى واحة تشع الأمان إلى كل السويس!. أصبح المستشفى مزاراً للمدنيين.. الذين وجدوا فى هذا التجمع نبع أمان ويقين وثقة وعزيمة وإصرار!. مناخ إيجابى عظيم.. رفع المعنويات فى السماء.. ومعها!.
4- الكل فى آن واحد يطالبون د.أيوب.. أن يعطيهم السلاح الموجود فى مخزن المستشفى!. منطق يمكن تقبله من الأصحاء.. لكن كيف من الجرحى الذين يريدون حمل السلاح.. وحجتهم ما جدوى العلاج إذا تم احتلال السويس!. وبدأ صراع بين الأطباء والجرحى.. الأطباء يرفضون خروج الجرحى لأنه لا جدوى من خروجهم قبل اكتمال شفائهم.. ويحسم النقيب عاصم حمودة ضابط نقطة الشرطة المكلفة بحراسة المستشفى والسلاح الموجود فى المخزن سلاحها!. النقيب عاصم اقترح أن يقوم الأطباء بفرز حالات الجرحى.. والسماح بالخروج وحمل السلاح لمن يقدر صحياً.. فعلاً وقت الشدة يظهر المعدن المصرى الأصيل!.
5- مئات المشاهد الإنسانية العظيمة.. فتيات وسيدات السويس يتطوعن لخدمة الجرحى والمرضى!. معركة ميدان الأربعين التى دمر السوايسة فيها 20 دبابة للعدو.. سائق الإسعاف محمود جمعة يقوم بنقل المصابين من قلب جحيم المعركة.. وزميله إبراهيم محمد إبراهيم الذى كان ينقل 8 مصابين من منطقة المثلث وأصيبت سيارته وتعطلت.. لكنه لم يتعطل.. نقل المصابين إلى عربة جيب سائقها استشهد وأوصلهم للمستشفى!. والدكتور نصر الباجورى ترك المستشفى ليسعف جنوداً مصابين فى حى الأربعين كان يصعب نقلهم للمستشفى!. العربة الكارو الوحيدة الموجودة فى السويس.. صاحبها سيد شراب.. كانت عربته الوسيلة الوحيدة لنقل الناس والجرحى مع احتدام أزمة الوقود فى الحصار!. وبسبب أزمة الوقود.. قرر د.أيوب وقف أفران ومواقد المطبخ لتوفير الوقود لماكينة الإنارة!. طباخ المستشفى إبراهيم فتح الله.. شكل فريقاً من المتطوعين لقطع الأشجار لاستخدامها فى الطهو!.
النقاط المتبقية كثيرة والأحداث القادمة أكثر والمساحة انتهت مع نهاية أحداث 24 أكتوبر.. اليوم الذى تعرضت فيه مدينة السويس لأكبر كمية نيران من مختلف الأسلحة والذخائر.. والحصيلة خسائر لا تحصى وجرحى أكثر من أى يوم مضى.. «وقَابِلْ» يا مستشفى السويس!.
لمزيد من مقالات إبراهيـم حجـازى رابط دائم: