كان والده يعمل تاجرا للغلال، ويحلم بأن يكون ابنه أزهريا، لكن الأم، وهى زوجة ثانية استغلت سفر زوجها إلى السودان وألحقت طفلها محمد حسنين هيكل بمدرسة التوفيقية.
ورغم أن هيكل «1923ــ2016» حصل على شهادة متوسطة دبلوم تجارة فإن التعليم سوف يصبح الأسطورة التى تحكم مجرى حياته حتى يغدو «أستاذا»، ويكون العلم أو المعرفة السبب فى صعوده وهبوطه وربما سجنه أيضا.
بذرة الفن سوف تكون الجناح الآخر للأسطورة، حيث وضعت والدته هذه البذرة فى عقله ووجدانه وهى تحكى له حكايات الظاهر بيبرس والأميرة ذات الهمة ليصبح «حكاء مصر الأول».
وشاء حظه أن يكون الشاعر على الجارم أستاذه فى المدرسة، فيتعلم ويتذوق على يديه جمال الكلمات وسحرها فى أذنيه، وتكون مكتبة خاله عالم أكثر رحابة على الفكر والأدب والتراث، فيقرأ العقاد وطه حسين وأمهات الكتب.
تعليمه المتواضع سوف يقوده إلى تحقيق أسطورته، عندما يلتحق بالقسم الحر فى الجامعة الأمريكية، ليرفع مستواه التعليمى، ويتعلم الإنجليزية، فيرشحه أحد مدرسيه بالجامعة للعمل فى جريدة «إجبيشيان جازيت» كمحرر حوادث.
وعندما عرض رئيس التحرير هارولد إيريل على أربعة صحفيين شباب السفر لتغطية الحرب العالمية الثانية التى تدور بعض معاركها فى العلمين، بشرط موافقة آبائهم، يغامر هيكل بقبول المهمة ويقنع خاله بأن يوقع خطيا على سفره، حيث رحى الحرب مشتعلة ليتضح أمامه عالم رحب سوف يشكل غده ومستقبله وأسطورته أيضا.
كان الدرس الأول من رئيس التحرير إلى تلميذه هيكل: لا ترسل أخبارا.. نريد أن تدون ملاحظاتك على ما ترى فى ميادين الحرب، وأن تسجل انطباعاتك أولا بأول، وعندما تعود حاول أن تضبط كتابتها دون أن تفقد طزاجتها.
منذ هذه اللحظة تعلم هيكل أن يدون كل شيء، حتى ورقة المواعيد لا يلقى بها فى سلة المهملات!.
منحته معركة العلمين الفرصة مبكرا ليطل على العالم فى ذروة صراعاته وحروبه، شاهدا على الدراما الإنسانية فى أجل وأبشع صورها.
ثم حدث أن طلبه الصحفى الكبير محمد التابعى للعمل فى مدرسة «أخبار اليوم»، وهناك سطعت أسطورته بسرعة البرق، محققا ومراسلا متجولا لمدة 5 سنوات فى مناطق الصراع باليونان والبلقان وفلسطين، وتغطية الانقلابات فى سوريا، وثورة مصدق فى إيران التى منحته أول كتبه «إيران فوق بركان».
وحصل على جائزة فاروق للصحافة ثلاث مرات متتالية، وأكثر من ذلك أصبح رئيسا لتحرير «آخر ساعة»، وقدمه الصحفى الكبير على أمين للقراء بإنسانية ورقة وإبداع: إننى أشعر بأن هيكل ابنى.. اكتشفته ودفعته للأمام، فإذا به يصبح نجما من نجوم الصحافة، وهو فى سن الرابعة والعشرين، ولذلك كنت أخاف عليه، وأخاف على اكتشافى أن يدخل فى امتحان جديد!.
ولكنه دخل التجربة ونجح، وعمل فى العامين الماضيين كمساعد لرئيس تحرير «آخر ساعة»، فلمع وإن لم يخرج نوره إلى الشارع!.
وأخيرا.. أقدم لكم استقالتى من رئاسة تحرير «آخر ساعة» لأعود محررا عاديا فى المجلة، وأقدم لكم مع الاستقالة رئيس تحرير «آخر ساعة» الجديد محمد حسنين هيكل.
كانت هذه شهادة من على أمين أن هيكل أصبح «أستاذا».
لا أحد يعرف بالضبط اللحظة التى توطدت فيها علاقة عبدالناصر بهيكل، لكن السؤال الذى ألقاه نقيب الصحفيين حسين فهمى على الرئيس عبدالناصر دال وكاشف.
فخلال مؤتمر بريونى، حيث ولدت حركة عدم الانحياز، سأل نقيب الصحفيين الرئيس: لماذا تخص هيكل وحده بالأخبار؟.
وأجاب عبدالناصر: هيكل هو الذى يخصنى بالأخبار، يتابع ما يجرى فى كواليس المؤتمر وينقل لى توجهات الوفود المشاركة، ويقترح صيغا لتجاوز المطبات السياسية.
لقد اكتشف عبدالناصر فى هيكل أسطورة «المعلم» الذى لديه إجابة وحلول لكل شىء. كان عبدالناصر يحب القراءة والفن ووجد فى هيكل ضالته بعد أن أصبح الوقت ضيقا للقراءة والمتعة. غدا هيكل حاضرا فى عقل الزعيم يكتب الخطب والرسائل، ويحلل المواقف، ويطلق النظريات، ويتصدى للدفاع وقيادة المعارك أيضا بالكلمة والرأى.
فأى شىء تود أن تعرفه عن موقف الزعيم من أى قضية، فهناك مقالة هيكل «بصراحة» فى الأهرام تفسر وتجيب عن الأسئلة التى تشغل دوائر صنع القرار المهتمة بمصر.
انتقل هيكل لـ «الأهرام» سنة 1957، لتتجلى أسطورته فى أبهى صورة، وهو يصنع مدرسته الصحفية على عينيه.
كانت «الأهرام» فى أشد لحظاتها ضعفا، فارتفع توزيعها إلى 400 ألف نسخة، ثم شارف على المليون، وقام بإنشاء مبنى الأهرام الجديد على مساحة 3 آلاف متر وعهد بتنفيذه إلى المهندس نعوم شبيب الذى نفذ برج القاهرة، ليكون أحدث مبنى صحفى فى الشرق الأوسط.
وتجلت سمة الفنان داخل هيكل فى كل لمسة داخل المبنى العريق، فعهد إلى الفنان محمد رزق بعمل جدارية «قصة الخبر عبر العصور» لتزيين المدخل، ثم كلف آدم حنين بعمل نسر يهم بالانطلاق أمام المبنى، وبدأ فى اقتناء لوحات فنية لمحمود سعيد وحامد ندا وتحية حليم وصلاح طاهر وإنجى أفلاطون، لتزيين غرف وطرقات الأهرام، التى تحولت إلى متحف كبير، ثم خصص الدور السادس لكبار الكتاب: توفيق الحكيم ونجيب محفوظ ويوسف إدريس وزكى نجيب محمود ولويس عوض وبنت الشاطئ وعبدالرحمن الشرقاوى ويوسف جوهر ومحمد سيد أحمد.
ونشر أكثر الكتب إثارة للجدل مثل رواية «أولاد حارتنا» لمحفوظ، و«بنك القلق» للحكيم.
وزار الزعيم جمال عبدالناصر صرح المعلم «الأهرام»، واستمرت الزيارة 5 ساعات، حضر خلالها عبدالناصر، يرافقه السادات، دون حراسة، والتقى خلالها كبار الكتاب وشاهد الصحفيين فى صالة التحرير.
ظل هيكل طيلة الوقت يتعلم ويعلم طبقا للأسطورة التى تحكم حياته. يقول لعبدالله السناوى فى أحاديث برقاش: فى كل مراحل حياتنا هناك أستاذ يعلم ويؤثر بأكثر مما نتصور، وحياتنا تتوقف على الطريقة التى نستقبل بها المقادير نشطين فى التفاعل معها أو بليدين.
ويحكى عن لقائه الرئيس الفرنسى ديجول عقب نكسة 1967، حيث طلب الرئيس الفرنسى خريطة، ووضعها أمام هيكل وقال له: انظر أمامك مسيو هيكل.. هذه هى مساحة العالم العربى، وهذه هى مساحة إسرائيل، الهزيمة التى لحقت بكم مؤقتة بحكم الجغرافيا، وأى شخص عندكم ينظر للخريطة لا بد أن يشعر بثقة فى المستقبل.
ومنذ هذه اللحظة تعلم الأستاذ هيكل ألا يتكلم إلا بعد أن ينظر إلى الخريطة، ليعرف حجم الدول ومقدار أدوارها.
العلم والفن والثقافة التى صنعت أسطورة هيكل وعلاقته بعبدالناصر هى نفسها التى دمرت علاقته بالسادات، وحالت دون إقامة علاقة جيدة مع مبارك.
عندما كان السادات يتلمس الخطى نحو الحكم وإدارة البلاد، كان هيكل بالنسبة له هو المعلم والمرشد، كما كان أيام عبدالناصر، خاصة فى أزمة مايو 1971. وقد لقن هيكل السادات أن يرفع شعار «الديمقراطية» فى مواجهة من أطلق عليهم «مراكز القوى»، ليجمع حوله الجماهير ويواجههم فرادى.
واستمر هيكل يقوم بالدور نفسه الذى كان يقوم به أيام عبدالناصر، حتى نصر أكتوبر، فكتب التوجيه الإستراتيجى للحرب، وكتب للسادات خطابه الشهير فى مجلس الشعب بعد النصر: «لقد أصبح للأمة درع وسيف».
لكن السادات لم يكن عبدالناصر، وقال جملته الشهيرة: هذه الأوراق الكثيرة هى التى قتلت عبدالناصر.. ابعدوها عنى!.
وكان هيكل «المعلم الكبير» هو أكبر الأوراق التى يجب إبعادها، لأنه يدقق فى الفاصلة والنقطة وعلامة التعجب!.
الخلاف بين السادات وهيكل لم يكن فقط خلافا فى وجهات النظر، لكنه كان صراعا بين ثقافتين وعقليتين مختلفتين تماما، عقلية منظمة منضبطة تقرأ كل كلمة ولا تغفل علامات الترقيم، وعقلية تكتفى بالعنوان وفقط!.
اصطدمت أسطورة «المعلم» بأسطورة الممثل داخل السادات الذى كان يراهن على إيراد الشباك بغض النظر عن جودة الفيلم! والنصر غالبا يكون لمصلحة شباك التذاكر!.
وخرج هيكل بعد 17 عاما من «الأهرام» بقرار من الرئيس السادات فى فبراير 1974.
راح هيكل يلتقط أنفاسه، ليفهم ما جرى، فعاد إلى أسطورته «التعليم» وحضر دورة دراسية فى الجامعة الأمريكية فى علم الاجتماع السياسى.
ثم عكف على أوراقه وكتبه، وراح يطل على الدنيا متخففا من كل المناصب إلا قلمه أسطورته التى لا تكرر. كان متسلحا للمعركة التى ظهرت نذرها فى الهجوم على عبدالناصر، وعندما استعرت حدتها، تصدى لها بكل قوة، لأنها لم تكن معركة ضد عبدالناصر، ولكنها كانت ضد أفكاره هو ومبادئه وأحلامه ورؤيته وأستاذيه.. فعبدالناصر رغم عقله وذكائه الشديد، كان الوجه الآخر لأفكار الأستاذ هيكل.
تصدى هيكل لكل التجاوزات والاتهامات التى وصمت عصر عبدالناصر، شارحا بالكلمات والوثائق ما جرى، وأن من يتهمون عبدالناصر الآن، كانوا بجانبه ولم ينطقوا خوفا أو اقتناعا، فلا يحق لهم الآن الكلام، كان يغمز السادات بالطبع.
تصدى هيكل بأستاذيه للحملة ضد عبدالناصر وجمعها فى كتاب «لمصر.. لا لعبدالناصر» يعتبره أحب الكتب إلى قلبه، رغم أنه قاده إلى السجن فى أحداث سبتمبر 1981.
بعد 90 يوما فى السجن، خرج هيكل والتقى الرئيس الجديد مبارك، ثم أرسل له رسالة طويلة يشرح له فيها الوضع فى المنطقة والعالم. كانت الرسالة خلاصة فكره وأستاذيته، لكن ساكن القصر الجديد لم يكن يؤمن بالقراءة ولا يفهم شيئا فى أساطير الإبداع.
منع مبارك هيكل من الكتابة تقريبا إلا بعض محاضرات تثير العواصف كلما طل فى واحدة منها، سواء فى الجامعة الأمريكية أو معرض الكتاب.
أحس الأستاذ بأن كل شيء تغير، الرجال والمواقف والدول والصراعات، وبدا أنه يتحدث عن عصر آخر، فعكف على كتبه ووثائقه، وراح يقرأ ويقرأ ويحلل ويكتب، وتطير كتبه إلى أركان المعمورة بكل اللغات.. موثقا ومؤرخا وشاهدا وصديقا لمعظم زعماء العالم.
وغدت كتبه مرجعا لا غنى عنها لمن أراد أن يفهم من رجل عرف واقترب ورأى وكتب عن أحداث كبرى عاصرها وكان أحد رجالها.
حتى اهتزت الأرض بالثورة ضد مبارك «السلطة التى شاخت مقاعدها»، كما وصفها «الأستاذ».
وفى مرحلة الثورة ومرحلة السيولة توهج الأستاذ مرة أخرى، وكان منزله فى «برقاش» المحطة لكل من يريد أن يفهم أو يحصل على شرعية، وخاصة المرشحين للرئاسة.
كما التقى الرئيسين عدلى منصور ومحمد مرسى، وقبلهما المشير طنطاوى، لكنه بدا قلقا على مصر تحت قبضة جحافل الظلام الإخوانية ورئيسهم المسخ.
كان عقله وقلبه على الوطن، ولم يقر أو يطمئن إلا بعد 30 يونيو 2013، وتولى الرئيس السيسى الحكم. بعدها بقليل، أخذ هيكل بمنتهى الانضباط قراره بالموت، رافضا أن يقوم بعملية الغسيل الكلوى. ومات أسطورة الصحافة التى لن تتكرر.. مات الأستاذ.. طبقا لأسطورته تماما، عاش تلميذا للعلم والمعرفة، ومات أستاذا.. من أغلى عشرة صحفيين فى العالم.
لمزيد من مقالات محسن عبدالعزيز رابط دائم: