انتابنى شعور بالرهبة عندما جلست على مقعد رئيس تحرير جريدة الأهرام العريقة، فهى رائدة الصحافة فى الشرق الأوسط، حيث صدر العدد الأول منها فى الخامس من أغسطس 1876، على يد الأخوين سليم وبشارة تقلا فى الإسكندرية، التى كانت العاصمة الثقافية والمنارة التى أضاءت جوانب البحر المتوسط، بتفاعل مختلف الثقافات المتعايشة فى تلك المدينة التى احتضنت أقليات من مختلف أنحاء أوروبا، وكانت جريدة الأهرم تعبر منذ صدورها عن التطلع للنهوض بالمعرفة والتنوير، وتصبح نافذة للشعب المصرى والشعوب العربية على مختلف الأحداث والعلوم والفنون والآداب والتطور العلمى والتقنى.
شعورى بالهيبة والرهبة نابع من هذا الإرث المعرفى والثقافى وتطور فنون الصحافة، وعندما تجولت فى أنحاء غرفة رئاسة التحرير، توقفت أمام صور رؤساء التحرير الذين تعاقبوا على هذا المقعد، ومنهم هيكل وأحمد بهاء الدين وأنطون الجميَّل وداود بركات وكوكبة كبيرة من رموز الفكر والصحافة والأدب، ومن بين أبرز كتابها الشيخ محمد عبده وأحمد لطفى السيد ومحمود سامى البارودى وأحمد شوقى ومصطفى لطفى المنفلوطى وطه حسين وعباس العقاد ونجيب محفوظ وتوفيق الحكيم ويوسف إدريس وبنت الشاطئ ولويس عوض وثروت أباظة وعبدالرحمن الشرقاوى وإحسان عبدالقدوس، وعشرات بل مئات من أعلام الأدب والفن والثقافة والعلوم والسياسة الذين يصعب حصرهم، كل هؤلاء كانت الأهرام منصة لإبداعاتهم وكتاباتهم التى أضاءت جوانب الحياة فى مصر والعالم.
وإذا كان ملحقنا الصادر اليوم قد ألقى الضوء على أهم جوانب مسيرة الأهرام الطويلة والشاقة والمؤثرة والمبدعة، فإنى أود أن ألقى بعض الضوء على جانب آخر قلما تناولناه، والمتعلق بأعراف وتقاليد الأهرام المهنية، تلك التقاليد التى توارثتها الأجيال منذ جيلها المؤسس وخلال مسيرتها الطويلة، فالأهرام كانت رائدة فى أسلوبها، تخلصت من زخارف السجع والكلمات الصعبة المهجورة التى لا يعرف معناها رجل الشارع، وابتدعت أسلوباً يجمع بين السلاسة والرصانة، فكان الأسلوب الإعلامى الذى اتسع استخدامه، والذى يحافظ على اللغة العربية السليمة، والكلمات السهلة والأسلوب السلس المتخلص من الزوائد والزخارف، فكانت الأهرام همزة الوصل بين الثقافة الرفيعة وجموع الشعب بمختلف أطيافه، وهذا الأسلوب الذى ميز الأهرام كان له تأثيره، وأصبح مدرسة لها امتداداتها فى الصحافة والإعلام داخل مصر وخارجها.
كما تمسكت الأهرام بمبدأ مهم وهو أن الدقة أهم من السبق الصحفي، وظلت تكرس هذا المبدأ المهم فى صفوف فريقها الصحفى على مدى الأجيال، فتحرى الدقة والتيقن من صدق الحدث أهم من التسرع ونقل معلومة كاذبة أو غير دقيقة، وألا نضع السبق قبل الحقيقة، لأن الكلمة مسئولية علينا أن نسعى لتحملها، رغم إغراء السبق. كما ابتعدت الأهرام عن سباق الصحافة الشعبوية التى تضع العناوين المثيرة حتى لو كانت بعيدة عن الحقيقة، رغم تبارى الكثير من الصحف فى هذا اللون الذى يجذب قطاعات أوسع من الجماهير على حساب الحقيقة والدقة والرصانة والمسئولية، وتفخر الأهرام بأنها أسست مدرسة صحفية قادرة على الوصول لأوسع جمهور دون أن تتخلى عن رصانتها وأدائها المهنى طوال فترة طويلة، ليست سنوات أو عقوداً، بل ناهزت قرناً ونصف قرن، وعاشت فى ظل عهود طويلة وتعرضت للأنواء والتغيرات الكثيرة، لكنها ظلت دوما تحافظ على ترسيخ قواعدها وأعرافها وتقاليدها المهنية والإدارية، ومع هذا الزمن الطويل كان من الطبيعى أن تمر الأهرام بالكثير من المنحنيات الصعبة، سواء فى فترة الاحتلال أو عند انحيازها إلى ثورة الشعب فى 1919، مما عرضها للمضايقات، وحتى ثورة يوليو وتأميم الصحافة، إلى ظهور الصحافة الخاصة وحتى دخول العولمة الإعلامية فى عصر الثورة الرقمية، ورغم كل هذه المتغيرات السياسية والاجتماعية والاقتصادية وظهور التقنيات الجديدة فقد حافظت الأهرام دوما على مكانتها، وكانت سباقة فى ملاحقة التغيرات واستيعابها والنهوض بدورها فى أحلك اللحظات.
أما عن المشاعر التى لازمتنى فكانت الشعور بجسامة المسئولية الملقاة على عاتقي، خاصة فى تلك الظروف الصعبة التى كانت تمر بها مصر، والمخاطر التى تتهددها فى ذروة معركتها مع جماعة الإخوان والإرهاب المدعوم إقليميا ودوليا، ولم يكن أمام الشعب المصرى وقيادته إلا خوض غمار معركة التحرر من الإرهاب وجماعته، ومنع تحويل مصر إلى ولاية عثمانية، وهى فترة صعبة مرت علينا، لكن مصر تمكنت سريعا من النهوض وتغلبت على تلك المحنة، وجنبت الشعب المصرى ويلات السقوط فى أيدى الإرهاب الذى دمر العديد من بلدان المنطقة، ومازالت له بعض الأذناب، لكن مصر كانت أول من ضرب رأس الأفعى وأوقفت سريان سمومها، وهدم أضخم مراكزها فى المنطقة، فكانت مصر عصية على الانقياد والتفكك والفتنة التى كانت تتربص بها، حيث وأدت الفتنة فى مهدها بكل قوة وجسارة، ومنحت الأمل لشعوب المنطقة بالتحرر من الإرهاب، وإذا كانت المعركة مع الإرهاب وفلول الجماعة قد تركت ظلالها على الصحافة، وتطلبت وضع بعض الضوابط، فإن تلك الظروف الاستثنائية والمخاطر الجسيمة والتحديات الخطيرة كان لها بعض الآثار الجانبية التى تصحب العلاج، وهو أمر طبيعى حتى تستعيد مصر عافيتها، وتنهض على كل الصعد الاقتصادية والسياسية والإدارية، ومعها ينهض الإعلام المصرى فى صورة عصرية تليق بمكانة مصر ودورها الإقليمى والدولى الذى تستحقه مصر، وهو ضرورة لكل شعوب المنطقة والعالم كله، فعندما تراجع دور مصر حدث الخلل والأزمات واتسعت الحروب ونزفت الشعوب من دمها ولحمها، وهزت الزلازل دول وشعوب المنطقة، وقد آن الأوان لاستعادة المنطقة توازنها، والمياه لمجاريها، والسلام للشعوب التى تستحقه، وأن تظل الأهرام دوما ديوان الحياة المصرية، والمعبرة عن كل آمالها وآلامها ، ولبنة فى بناء نهضتها الجديدة.
لمزيد من مقالات بقلم : عـلاء ثـابت رابط دائم: