رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

تلك الأيام
أســطورة الخديوى إسماعيل

كان إسماعيل مريضا فلم يحضر الحفل الذى أعده عمه الوالى سعيد باشا لأفراد الأسرة العلوية، وبالطبع لم يركب القطار العائد بأخيه أحمد رفعت ولى العهد. كان ذلك من حسن حظ إسماعيل فقد غرق القطار فى النيل ومات الأمير أحمد رفعت وأصبح إسماعيل وليا للعهد ثم الخديوى وعمره 32 سنة بعد وفاة سعيد باشا ليحقق أسطورته الخاصة فى تغيير شكل مصر وجعلها قطعة من أوروبا.




ولد إسماعيل عام 1830 فى قصر المسافر خانة بالقاهرة وأصابه الرمد فأرسله والده إبراهيم باشا إلى النمسا للعلاج على يد أخصائى شهير.

كانت النمسا فى ذلك الوقت أمبراطورية كبيرة يتودد زعيمها ميترنيخ إلى مصر وقوة محمد على فى الساحة الدولية مع انتصارات إبراهيم باشا فى معارك «قونية» و«نزيب» ضد السلطان العثمانى التى تخطف الألباب وتجعل العالم يقف حائراً.

لقى إسماعيل حفاوة كبيرة فى النمسا، وكان الامبراطور والامبراطورة يؤثرونه برعاية خاصة. وقامت الامبراطورة الوالدة بتغيير محل اقامتها مرتين لتدرأ الشمس عن عينيه وتحميه من التقلبات الجوية.

وكبر إسماعيل وأصبح نجم حفلات فيينا بأناقته الفاخرة، ثم التحق بمدرسة باريس وتعلم الهندسة والرياضيات والطبيعة، وأتقن اللغة الفرنسية كتابة وتحدثاً، وبهرته باريس بروعتها وجمالها، فتعلق بها، وظل طوال حياته يحلم بأن يجعل من القاهرة باريسا أخرى.

لتصبح أسطورة إسماعيل التى تحدد مجرى حياته هى الحلم بحداثة أوروبا التى عالجته مريضا، وعلمته صغيراً، وبهرته شابا. فلماذا لا تكون مصر قطعة من أوروبا؟

وقد عاش إسماعيل ما يقرب من عشرين عاما يرى انتصارات أبيه وجده. وإذا كان محمد على وضع أسس بناء الدولة المصرية الحديثة، فلماذا لا يكمل إسماعيل الطريق ويدخل بمصر إلى عصر الحداثة، بعد أن رجعت أيام عباس الأول إلى عصر التخلف.

كان عباس بن طوسون حاكما رجعيا يكره جده محمد على وعمه إبراهيم باشا فأغلق المدارس وأهمل الجيش، وعزل نفسه فى قصره وقرب إليه المنجمين، ولذلك ترك إسماعيل مصر طوال مدة حكمه 6 سنوات ولم يرجع إلا فى عهد عمه سعيد باشا.

عندما تولى إسماعيل الحكم فى يناير 1863 قال فى خطبته الأولى: إن أساس كل إدارة جيدة النظام والاقتصاد فى النفقات المالية، وانى سأجعل ذلك نبراسى فى كل أعمالى لكن الرجل الحالم الذى يعيش أسطورته الخاصة لم يلتزم بهذا الكلام أبداً. ولم يمر شهران إلا وقام بدعوة السلطان عبدالعزيز لزيارة مصر ليبدأ فى سياسة دفع الرشاوى للسلطان الفاسد وحاشيته للحصول على فرمانات تغيير نظام وراثة العرش ولقب خديوى وتوسيع استقلاله، وبلغت هذه الرشاوى طوال حكمه 12 مليون جنيه.

كان أول تماس مع الأسطورة الحالم «أوروبا» عندما أرسله عمه سعيد باشا إلى نابليون الثالث إمبراطور فرنسا من أجل توسيع استقلاله بعد اشتراكه مع الحلفاء فى حرب القرم ضد روسيا، وأدى إسماعيل المهمة بما يمتلك من لياقة وذكاء، ووعده نابليون بتأييد مقترحه فى مؤتمر الصلح بباريس، ولكنه لم يحقق وعده!

وعندما تولى كانت أول مشكلة تواجهه شروط امتياز قناة السويس المجحفة. كانت حكومة سعيد باشا تسحب الفلاحين إلى العمل بالسخرة فى حفر القناة ويجرون سيراً على الأقدام إلى بورسعيد، وقد ربط بعضهم إلى بعض كالحيوانات، وكان عددهم يصل إلى 20 ألف شهريا.

وعمل إسماعيل على إلغاء السخرة وإلغاء تملك الشركة للأراضى حول القناة، وكان يردد: اننى أريد أن تكون القناة لمصر، لا أن تكون مصر للقناة.

وأوفد وزيره نوبار إلى فرنسا للتفاوض دون جدوى، فطلب الخديوى تحكيم إمبراطور فرنسا نابليون الثالث للفصل فى النزاع، فكان الخصم والحكم!

وجاءت أحكام نابليون جائرة على مصر حيث ألزم الحكومة المصرية بدفع 3٫360٫000 مليون أى ما يقرب من نصف رأسمال الشركة البالغ 8 ملايين جنيه! مقابل إلغاء السخرة، وعدم تملك الشركة للأراضى ورضخ إسماعيل للحكم!

لن يتوقف الخديوى الحالم، كثيرا أمام تصرفات أوروبا الغربية فثقته فى نفسه ليس لها حدود، وهو قادر على اقناعها بعبقريته، وسوف يعمل على تقوية الجيش والبحرية ويقوم عام 1865بفتوحات كبيرة فى افريقيا معيدا مجد جده العظيم محمد على، ومستعينا برجال أوروبا فى هذه الفتوحات. فقام بفتح قاشورة ومديرية خط الاستواء، وأوغندا، وبحر الغزال، وضم زيلع وبربره فى خليج عدن، وهرر جنوب الحبشة، وسواحل الصومال على المحيط الهندى، كما وصل إلى بحيرة فيكتوريا.

وخطأ إسماعيل القاتل طبقا لاسطورته أنه لم يعهد بهذه المهمة إلى ضباط الجيش المصرى وإنما عهد بها إلى جماعة من الإنجليز.

كما يذكر الرافعى مثل صمويل بيكر الذى عينه حاكما لمديرية خط الاستواء تحت العلم المصرى، كان إسماعيل حالما حسن النية، بينما كانت انجلترا تضع عينيها على هذه المديرية لأنها مفتاح السودان، وبها منابع النيل مصدر الحياة لمصر.

وإسماعيل الحالم كان بعيد النظر بالطبع، نقل مصر إلى الحداثة فى كل شيء، من الأوبرا والصحافة إلى إنشاء البرلمان والمتحف المصرى والجمعية الجغرافية، والبريد، ومصلحة الاحصاء، إلى المشروعات الزراعية الكبرى، شق 112 ترعة أهمها الإبراهيمية التى تعد من أعظم منشآت الرى، وقام بتحديث الجيش، وأعاد فتح المدارس التى أغلقها عباس وأسس مدارس جديدة.

وكان إنشاء مجلس شورى النواب عام 1866 نقلة كبرى إلى الحداثة السياسية وتكوين الأحزاب مثل الحزب الوطنى القديم وحزب الوفد اللذين سيقودان نضال الوطن ضد الاحتلال الإنجليزى بعد ذلك.

تحقق حلم إسماعيل أو اسطورته فى احتفالات قناة السويس التى حشد لها ملوك وملكات أوروبا، وعندما أزيل الحاجز الأخير الفاصل بين دخول مياه البحر الأحمر إلى القناة ممتزجا بمياه البحر المتوسط إيذانا بافتتاح القناة فى أغسطس 1869 وربط الشرق بالغرب، كان أربعة آلاف من الضيوف يتقدمهم الملكة أوجينى ملكة فرنسا وزوجها الإمبراطور نابليون الثالث وامبراطور النمسا وملك المجر وولى عهد بروسيا، يشهدون أول عاصمة فى الشرق تمتزج بحضارة أوروبا مثلما امتزجت مياه البحرين فى قناة السويس.

الاحتفال الاسطورى أرهق ميزانية البلاد فاضطر الخديوى لبيع أسهم مصر فى القناة لإنجلترا بأربعة ملايين جنيه وكانت تساوى 32 مليونا. ليفتح الباب لتدخلها فى شئون البلاد بعد أن تراكمت الديون وفوائدها، وعجز الخديوى عن الدفع.

ففرضت الدول الأوروبية وزارة نوبار باشا وعينت وزيرين انجليزى وفرنسى للمراقبة المالية ورعاية مصالح الدائنين وأطلق عليها الوزارة الأوروبية، ومنع الخديوى من حضور جلساتها بحجة أنه يعطل الاصلاحات وتأخرت هذه الوزارة فى دفع المرتبات وفصلت الموظفين، وأحالت 2500 ضابط إلى الاستيداع بعد التأخر فى دفع رواتبهم، فاحتشدوا أمام وزارة المالية واحتجزوا نوبار باشا ووزير المالية الإنجليزى داخلها.

وتدخل الخديوى واستغل الوضع لصالحه، ذهب بنفسه للضباط الغاضبين وقام بحل الأزمة، وقال لقناصل الدول: اننى غير مسئول عن الأمن ما لم تعد لى سلطاتى كاملة. وتم تشكيل حكومة برئاسة ابنه توفيق على أن يمنح الوزيرين الإنجليزى والفرنسى حق الفيتو اللذين أوعزا بحل البرلمان، تمهيدا لإعلان إفلاس الحكومة.

فاجتمع النواب والعلماء فى منزل إسماعيل راغب أول رئيس للبرلمان واتفقوا على وضع لائحة وطنية لتشكيل وزارة وطنية، وعمل تسوية مالية للديون تناسب إيرادات الحكومة واعطاء مجلس الشورى صلاحياته الممنوحة فى أوروبا. وقدموا المذكرة للخديوى الحالم فوافق عليها. وتم تكليف شريف باشا بالوزارة، كما تم عمل أول دستور للبلاد سنة 1879 والذى منح البرلمان سلطة اقرار الميزانية.

كان إسماعيل يحلم ولكن عندما أحس الأوروبيون أنه صدق حلمه، وأنه يحاربهم بالحداثة والديمقراطية التى اخترعوها.. غضبوا واتحدوا وقرروا خلعه، وكان السلطان عبدالحميد رجل أوروبا المريض جاهزا للطعن دائما، فأرسل قرار العزل وتعيين توفيق خلفا له.

لم يصدق إسماعيل بالطبع أن تخونه أوروبا حلمه وأسطورته بهذا الشكل، وأن ما تدعيه من حرية هو حريتها فى سرقة شعبه واحتلاله بعد ذلك!

وسافر إلى نابولى بايطاليا، وكان يتنقل بين العواصم الأوروبية يبحث وينقب كيف خانته أسطورته. ولما تعب من السؤال دون إجابة وأدرك حجم الخديعة، ترك أوروبا كلها، وذهب إلى الاستانة ليعيش فى كنف رجل أوروبا المريض محاطا بالجواسيس. وهناك مات عام 1895 وعمره 65 سنة ونقل جثمانه إلى القاهرة ودفن بمسجد الرفاعى، وحزنت عليه مصر لأنها صدقت حلمه بعد عزله ونفيه فداء لها.ِ


لمزيد من مقالات محسن عبد العزيز;

رابط دائم: