تأخرت كثيرا فى الكتابة عن السيدة الجليلة جيهان السادات والدعاء لها بالصحة والعافية أثناء مرضها الأخير. والحقيقة أن ذلك لم يكن راجعا لتقصير وإنما لوجل فى الكتابة عن سيدة عظيمة اكتسبت اسم شهرتها من رجل عظيم تقاسمته مع أمة لا تقل عظمة. فمن ناحيتى كنت محظوظا مرتين: الأولى عندما ساقتنى الأقدار لكى يكون من ذلك الجيل الذى حمل على عاتقه نتيجة الهزيمة فى يونيو ١٩٦٧، ومن بعده المشاركة فى معارك الصمت والاستنزاف والاستعداد، ومن بعدها الحرب المجيدة فى أكتوبر ١٩٧٣. والثانية جاءت عندما أخذت طريقى فى النصف الثانى من سبعينيات القرن الماضى إلى الولايات المتحدة للدراسة والحصول على الماجستير والدكتوراه. وبينما كان الحظ الأول شاقا بدنيا وعقليا وفيه الكثير من النقمة والغضب؛ فإن الحظ الثانى كان يمثل لحظة تنوير كبرى عندما بات على متابعة مصر من الخارج فكان فيها الكثير من الدهشة والانبهار بما لمصر من مكانة لدى المجتمع الأمريكي. كنت قد تركت القاهرة وقد تراكمت فيها الكثير من التطورات السياسية والدبلوماسية التى أعقبت الحرب وأدت إلى اتفاقيتين لفصل القوات على الجبهة المصرية؛ وواحدة على الجبهة السورية. وبات السؤال الملح هو ثم ماذا بعد؟ وعما إذا كانت نهاية الدبلوماسية أن تبقى أوضاع الاحتلال على حالها؛ وأن مصير سيناء والجولان سوف يكون مماثلا للقضية الفلسطينية التى تتعاقب عليها أجيال تتوالى عليها دائما طرق مسدودة على الحل والاختراق والتسوية؟ ولكن مشاهد جديدة ممتلئة بالضياء برقت فجأة عندما توالت تحركات الرئيس السادات بالمفاجأة الكبرى لزيارة القدس، وبعدها المفاوضات فى كامب دافيد، ثم توقيع معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية وبدء الانسحاب الإسرائيلى من سيناء، وبينما فى أمريكا ومصر كان عد الأيام جاريا حتى يتحقق الجلاء الكامل، جرت أبشع الجرائم التى جرت فى التاريخ المصرى الطويل، عندما اغتيل الرئيس السادات. كنت قد شاهدت العرض العسكرى احتفالا بيوم النصر المشهود، وعرفت أن أمرا جللا قد حدث، وعندما وصلت إلى الجامعة للتدريس كان الخبر قد حل، ووجدت تلاميذى ينتظمون فى صف طويل لتقديم العزاء لى فى رجل عظيم باعتبارى المصرى الوحيد الذى سوف يمثل فى لحظة نادرة أمة شهدت مولد التاريخ قبل آلاف الأعوام.
كان الرئيس السادات قد بات جزءا من الإعلام الأمريكى، ومن ناحيتى كانت دراستى عن الحرب والأزمات الدولية تقربنى كل يوم من الشخصية الفريدة التى استكمل فرادتها وعظمتها وجود السيدة الجليلة إلى جواره والتى فى جمالها وشخصيتها تستدعى إلى العالم الأمريكى أمرا مكتشفا متقدما ورائعا. فهى لم تكن الزوجة التى جاءت فى لحظة مع القدر والزمن لكى تكون وسط الأضواء الساطعة لميلاد الزمن، وإنما كان لديها من الشخصية والعلم والتدريب الفكرى ما يتيح لها أن تكون علامة مصرية غير متوقعة فى عالم مدهش. كان عالم التليفزيون آخذا فى التقدم، ملونا وناقلا لأحداث كبرى يقف فى وسطها شخصيات بدأت مع هنرى كيسنجر ولم تنته مع الرئيس جيمى كارتر؛ وإنما امتدت بعد اغتيال الرئيس المصرى إلى التعامل مع العالم الأمريكى باعتبارها ولأول مرة سيدة مصر الأولي. وبشكل ما فإن السيدة الجليلة كانت جاهزة تماما لهذه اللحظة التاريخية بما حملته من العبء الرهيب لواقعة الاغتيال، وما جرى بعدها من أحداث دفعتها إلى الولايات المتحدة للتدريس والتأليف وإلقاء المحاضرات. كان ما حصلت عليه من دراسة، وشهادة الدكتوراه، وما جمعته من تجربة أكاديمية، ولغة سلسة فى التعامل مع النصوص والنفوس، وإباء ومكانة واعتزاز بوطن ليس كمثله وطن آخر؛ حاضرا معها فى كل الأوقات. ولم يكن دورها أقل من ذلك عندما حملت تجربة طليعة المرأة المصرية والعمل الأهلى التى عكست فى الغربة النضال المصرى من أجل التحديث والتقدم.
وقد كنت دائما ممتنا وعارفا بالفضل للسيدة الكريمة سوسن عطية – مدير تحرير دورية السياسة المصرية فى مطلع الثمانينيات من القرن الماضى - لأنها بعد عدد من المقالات والدراسات المنشورة فى دوريات متعددة عن الرئيس السادات وحرب أكتوبر أخبرتنى أن السيدة جيهان السادات الابنة الصغرى للرئيس السادات تريد أن تعرف عما إذا كان لدى كتب أخري. لم يمض وقت طويل حتى جاءتنى الدعوة من السيدة الجليلة للقاء اعتادت عليه فى شهر ديسمبر من كل عام مع النخبة السياسية والفكرية التى عملت وعاصرت الرئيس. وهكذا جاءت اللحظة الكبرى لباحث ودارس وكاتب أن يلتقى مع بطله فى السياسة الواقعية وحسابات توازنات القوى الدقيقة، والقدرة على استخدام القوى العسكرية من أجل تحقيق أهداف سياسية محددة وليس للاستعراض والتعبير عن غضب.
كان دخول منزل الرئيس السادات مفعما بكثير من المشاعر التى تسأل السيدة الجليلة عن أين جلس ومتى تأمل وعما إذا كانت اللحظة الملهمة قد جاءت هنا أو هناك. كانت السيدة الأولى تقود فى النهاية بيتا مصريا صميما يعرف الحداثة نعم للمرأة والرجل، ولكن فيه تلك اللمسة من الأصالة والكرم والدعابة فى آن واحد.
كنت أعلم أننى قد وصلت متأخرا بعد ذهاب الرجل الكبير، ولكن الأسرة كان فيها عوض بما توفره من اعتزاز ورغبة عارمة فى تقدم بلد نحبه جميعا. توالت اللقاءات بعد ذلك، ومعها كانت الأسئلة عما جرى ويجرى، وكان الحماس حاضرا عندما يكون الحديث عن دور القوات المسلحة، وعن دور المرأة فى المجتمع المصرى المعاصر. الدعاء للسيدة الجليلة بالرحمة فى جنة موعودة، والبقاء لله والعزاء والتقدير للأسرة الكريمة.
وإنا لله وإنا إليه راجعون.
لمزيد من مقالات د. عبد المنعم سعيد رابط دائم: