فى يوم من الأيام كان المصريون من أكثر شعوب العالم ترفعا ورقيا وكان المصرى فنانا بطبيعته .. ولم يكن غريبا أن تكون أوبرا القاهرة قبل أوبرا باريس وأن يقدم المسرح القومى مسرحيات شكسبير وأن يطوف يوسف وهبى بفرقته القرى والعواصم العربية يقدم المسرحيات العالمية .. لم يكن غريبا أن تنتج السينما المصرية أكثر من مائة فيلم فى السنة وأن تنافس الأفلام المصرية السينما الهندية والايطالية فى أسواق العالم .. لم يكن غريبا أن تهبط عشرات الطائرات فى مطار القاهرة لحضور حفل كوكب الشرق أم كلثوم ليلة الخميس من كل شهر ..
> لم يكن غريبا أن تفتتح مصر قناة السويس بأوبرا عايدة للمؤلف الإيطالى فيردى وفى حضور إمبراطورة فرنسا أوجينى .. لم يكن غريبا أن يحضر الملك فاروق حفلا للنادى الأهلى تغنى فيه أم كلثوم ويمنحها الملك وساما ملكيا لا يمنح إلا لأفراد الأسرة الملكية ..
> لم يكن غريبا أن تكون القاهرة أجمل عواصم العالم فى عشرينيات القرن الماضى وأن تقيم الأميرة فاطمة ابنة الخديو إسماعيل جامعة القاهرة من مالها الخاص وتتبرع بمجوهراتها والأرض التى أقيمت عليها الجامعة لتعليم المصريين ..
> لم يكن غريبا أن يكون دستور ١٩٢٣ أعظم دساتير مصر فى كل العصور وأن يكتب ديباجته عميد الأدب العربى طه حسين .. لم يكن غريبا أن تكون زيارة طه حسين للمملكة العربية السعودية حدثا ثقافيا تاريخيا فى المجتمع السعودى .. لم يكن غريبا أن يهرب مئات الآلاف من الأجانب من ألمانيا وايطاليا وفرنسا من دمار الحرب العالمية الثانية ويعيشوا فى مصر الأمن والأمان .. لم يكن غريبا أن يكون مستوى التعليم فى مدارس مصر على نفس المستوى فى أرقى دول العالم ..
> كانت قصور مصر تنافس أجمل القصور فى روما وباريس وكان المثقف المصرى لا يقل عمقا ووعيا عن رموز الفكر والإبداع فى الدول المتقدمة .. كانت فى مصر كتائب من العلماء والمفكرين والمبدعين والفنانين الذين وصلوا إلى آفاق العالمية وتصدروا ساحات الفكر والإبداع .. وكان لدينا إنسان بسيط عاش على ضفاف نهر عظيم وتعلم منه العطاء والرحمة والصبر والصمود والأمل ..
> كان الفلاح البسيط الذى آمن بالله قبل أن تهبط عليه الأديان وعرف الحب والتسامح والرضى وهو يلقى البذور وينتظر عطاء السماء كان يحفظ القرآن والإنجيل ويسمع آم كلثوم وعبد الوهاب يحب شجرة التوت التى تلقى ثمارها كل صباح أمام بيته .. كان ينام راضيا عفيفا مترفعا لا ينتظر شيئا من أحد، لأنه فى حماية علام الغيوب..
> كان هذا حالنا نحب الحياة ونقدس النهر وننتظر الحصاد وكنا نرفض الترخص والإسفاف والسفه .. ولكن وآه من ولكن هبت علينا رياح من التخلف لا أعرف كيف تسللت إلينا .. وأحرقت أشجار التوت وزرعت الحشائش وأفسدت العقول والقلوب والمشاعر فغابت طيور الرحمة وانقضت علينا خفافيش الظلام والطمع والظلم والإرهاب ..
> واختفى صوت أم كلثوم واجتاحت حياتنا أصوات من العالم الآخر تسمى أغانى المهرجانات .. ووجدت من يفتح لها الأبواب والشاشات والخزائن وتدفقت مستنقعات من الأموال والجهل والتخلف .. وقطعت رقاب أشجار عتيقة وأفسدت أذواق شعب كان فقيرا ولكنه كان عزيز النفس والكرامة .. ووجدنا فى شوارعنا أصواتا وأبواقا وشاشات تبث السموم فى العيون والعقول والمشاعر .. ووجدنا أذواق الناس الراقية المترفعة تحاصرها عصابات من السماسرة والمرتزقة وتجار الفرص تحاصر شعبا كان فى يوم من الأيام لا يتباهى بمال أو ثراء ولكنه كان يملك الوعى والرقى والترفع..
> كثيرا ما اسأل نفسى كيف تستعيد مصر الذوق الرفيع وكيف نسترد ما ضاع منا وعلى من تقع مسئولية ما حدث .. هل هو الشعب الذى فرط فى أجمل وارقى ما فيه .. هل هو العصر الذى حمل كل هذه التشوهات فى السلوك والأخلاق وأخذنا نصيبنا منها هل هى رياح المال المسمومة التى أفسدت أجمل ما كان فينا وأصبحنا عبيدا لسلطان لا يرحم .. هل هو الإنسان الذى أهملناه وتركناه لقطط الشوارع .. هل هو الإيمان الذى كان يضيء القلوب فتزداد يقينا ووعيا أم هو الحب الذى كان يمنحنا حب الوطن وحب النيل وحب الحياة..
> حين أعود إلى صورة إنسان كان وأشاهد فيلما قديما أو أسمع أغنية أو أشاهد شوارع القاهرة أو شواطئ الإسكندرية .. أو أشاهد عمارات مصر القديمة وما بقى فيها من القصور وعلى الجانب الآخر تلك المبانى القبيحة التى شوهت شواطئ النيل أتساءل كيف تسربت أشباح القبح الى حياتنا .. ومن الذى منحها الحماية وحق البقاء كيف تركنا سماسرة الفن وتجارة المقاولات تفسد علينا مظاهر الجمال والخيال والرقى .. كيف سيطرت جبال الأسمنت على قلاع الإبداع والتفرد وكيف تغيرت أذواق الناس ولم يعد الإنسان يفرق بين القبح والجمال ..
> حين استرجع قاهرة المعز عندما رأيتها لأول مرة وكانت امرأة جميلة أنيقة هادئة الطباع والأخلاق .. وأراها الآن تجرى وسط الشوارع بثيابها المهلهلة أتمنى لو عادت عاصمتنا الجميلة إلى رونقها الجميل .. قد تسألنى وما سبب كل هذا الحديث أقول إننى أتابع ما يجرى فى القاهرة القديمة من منشآت وتغيرات وسوف يكون شيئا حضاريا أن نعيد لها شيئا من جمالها الغارب ..
> وإن بقيت عندى بعض الأمنيات ..
أولا : العواصم العريقة فى كل دول العالم تدرك حرمة الأشجار وقدسية اللون الأخضر .. وكانت القاهرة تتمتع بأعداد كبيرة من الأشجار القديمة وأخشى أن تكون عمليات البناء والإصلاح والصيانة على حساب الأشجار .. كما حدث فى أحياء مثل مصر الجديدة والعجوزة والمعادى، أشجار القاهرة جزء من عمرها وتاريخها ورونقها ..
ثانياً : أنا لا أحب كتل الاسمنت السوداء ولا أتصورها بديلا للأغصان الخضراء التى تحمل عطر الزمن والعمر والتاريخ .. إن رائحة جدران القاهرة ذكريات البشر وأحداث التاريخ وصور من الماضى يعيش فى وجدان الناس
ثالثا : إن جدران القاهرة لها قدسيتها مثل أشجارها وشوارعها ويجب أن نتعامل معها بحرص شديد بحيث لا تطغى تلال الاسمنت على حرمة الزمن
رابعا : نحن نقدر التخطيط والتجديد والرؤى العصرية للمنشآت ولكن التوسع الكبير فى الكبارى قد يشوه الشوارع العتيقة ويفسد الكثير من جمالها كما حدث فى كبارى الزمالك القديمة..
خامسا : أنا أقدر كثيرا المشرفين على مشروعات تجديد القاهرة ولكننى تمنيت لو أنهم استعانوا بعدد من الفنانين وخبراء التراث والعمارة حرصا على جماليات القاهرة ومبانيها وشوارعها العتيقة..
سادسا : إن تجديد شباب القاهرة انجاز معمارى كبير وحماية لجزء عزيز من تراثنا لا أحد يختلف عليه ولكن يجب أن نبقى على ما بقى فيها من الجمال والشموخ ورائحة الزمن ..
> وأعود من حيث بدأت وأين الإنسان المصرى فى ذلك كله .. كيف نعيد وعيه وذوقه وإبداعه وترفعه ورقيه إنها قضية الإنسان تسبق ذلك كله .. كانت القاهرة كتلة من الجمال، الشوارع والبشر والمبانى والأشجار .. وهذا التناسق يحفظ التاريخ والأثر والإنسان وحين اختلت هذه المنظومة ظهرت العشوائيات وفسدت الأذواق واختلت القيم .. ومن هنا فإن نقطة البداية أن نعيد مقومات الإنسان.. فكره وثوابته وجذوره وأسلوب حياته وعلاقته بالبشر والأشياء.. ابحثوا عن الإنسان إنه ثروة مصر الحقيقية إنه صانع الحضارة وصاحب الفكر المستنير فى كل زمان ومكان..
ويبقى الشعر
مثـْـلُ النـَّوارس ِ..
حينَ يـَأتى اللـَّيْـلُ يَحْمِلـنِى الأسَى
وأحنُّ للشـَّط ّ البَعيدْ
مثـْـلُ النـَّوارس ِ..
أعْشـَقُ الشـُّطآنَ أحْيانـًا
وأعشَقُ دَنـْدنـَات الرّيح ِ.. والموْجَ العَنِيدْ
مثـْـلُ النـَّوارس ِ..
أجْمَلُ اللــَّحظـَاتِ عِنـْدِى
أنْ أنـَامَ عَـلى عُيُون ِ الفـَجر
أنْ ألـْهُو مَعَ الأطـْفـَال فِى أيَّام عيـِدْ
مثـْـلُ النـَّوارس ِ..
لا أرَى شَيـْئـًا أمَامِى
غـَير هَذا الأفـْق ِ..
لا أدْرى مَدَاهُ .. وَلا أريدْ
مثـْـلُ النـَّوارس ِ..
لا أحبُّ زَوَابعَ الشُّطـْآن ِ..
لا أرْضَى سُجُونَ القـَهْر ..
لا أرْتاحُ فى خـُبْز العَبيدْ
مثـْـلُ النـَّوارس ..
لا أحِبُّ العَيْشَ فِى سَفحْ الجبَال..
وَلا أحِبُّ العشْقَ فى صَدر الظـَّلام ِ
وَلا أحِبُّ الموْت فِى صَمتِ الجَليدْ
مثـْلُ النـَّوارس ِ..
أقـْطفُ اللـَّحظاتِ مِن فـَم الزَّمَان ِ
لـَتحتوينـِى فـَرْحة ٌ عَذراءُ
فِى يَوْم ٍ سَعِيدْ
مثـْلُ النـَّوارس ِ..
تعْتـَريــِنـِى رعْشَة ٌ.. وَيَدُقُّ قـَلبـِى
حِينَ تـَأتِى مَوْجَة ٌ
بالشَّوْق ِ تـُسْـكرُنِى.. وأسْـكِرُهَا
وأسْألـُهَا المزيدْ
مثـْلُ النـَّوارس ِ..
تـَهْدأ الأشْواقُ فِى قـَلبى قليــِلا ً
ثـُمَّ يُوقظـُهَا صُرَاخُ الضَّوءِ
والصُّبحُ الوَليدْ
مثـْلُ النـَّوارس ِ..
أشـْتـَهـِى قلـْبًا يعانِقـُنِى
فأنـْسَى عنـدُه سَأمِى..
وَأطـْوى مِحنـَة َ الزَّمَن ِالبَلِـيدْ
مثـْلُ النـَّوارس ِ..
لا أحَلـّق فِى الظـّلام ِ..
وَلا أحبُّ قوافِلَ التـَّرحَال ِ..
فِى اللـَّيْـل الطـَّريدْ
مثـْلُ النـَّوارس ِ..
لا أخَافُ الموْجَ
حِينَ يَـثـُورُ فِى وَجْهـِى.. وَيَشْطـُرُنِى
وَيبْدُو فِى سَوَادِ اللــَّيل كالقـَدر العَـتيدْ
مثـْلُ النـَّوارس ِ..
لا أحبُّ حَدَائقَ الأشجَار خـَاوَيـَة ً
وَيُطـْربُنـِى بَريقُ الضَّوْءِ
وَالمْوجُ الشَّريدْ
مثـْلُ النـَّوارس ِ..
لا أمَلُّ مَوَاكِبَ السَّفـَر الطـَّويل ِ..
وَحِينَ أغـْفـُو سَاعة ً
أصْحُو.. وَأبحرُ مِنْ جَديـِدْ
كـَمْ عِشْتُ أسْألُ مَا الـَّذى يَبْقى
إذا انـْطفـَأتْ عُيُونُ الصُّبح ِ
واخـْتـَنـَقـَتْ شُموعُ القـَلـْبِ
وَانكسرَتْ ضُلوعُ الموْج ِ
فِى حُزن ٍ شديدْ ؟!
لا شَىْءَ يَبْقـَى..
حِينَ ينـْكسرُ الجنـَاحُ
يَذوبُ ضَوءُ الشَّمْس
تـَسْكـُنُ رَفرفـَاتُ القـَلـْبِ
يَغمُرنا مَعَ الصَّمتِ الجَليـِدْ
لا شَىءَ يَبْقـَى غـَيُر صَوْتِ الرّيح
يَحمِلُ بَعْضَ ريشى فـَوْقَ أجْنِحَةِ المسَاءِ..
يَعُودُ يُلقيها إلى الشـَّط ّ البَعيدْ
فأعُودُ ألـْقِى للرّيَاح سَفِينتِى
وأغـُوصُ فى بَحْر الهُمُوم ِ..
يَشـُدُّنى صَمْتٌ وَئيدْ
وَأنـَا وَرَاءَ الأفق ِ ذكـْرَى نـَوْرس ٍ
غـَنـَّى.. وَأطـْرَبَهُ النـَّشِـيدْ
كـُلُّ النـَّوارس ِ..
قبْـلَ أنْ تـَمْضِى تـُغـَنـّى سَاعَة ً
وَالدَّهْرُ يَسْمَعُ مَا يُريدْ
[email protected]لمزيد من مقالات يكتبها فاروق جويدة رابط دائم: