كان سبعة آلاف أسير من الجيش الإثيوبى يجرى استعراضهم فى شوارع مدينة ميكلى عاصمة إقليم تيجراى الساعى للانفصال عن إثيوبيا، بينما كان آبى أحمد رئيس الوزراء ينفى الهزيمة القاسية التى تلقاها جيشه أمام الانفصاليين التيجراى، ويقول إنه أوقف الحرب من جانب واحد، لكن مشهد آلاف الأسرى الذين سار بهم التيجراى حوالى 75 كيلو مترا طوال أربعة أيام كان صفعة مدوية لآبى أحمد ويكشف جانبا من حقيقة مآسى الشعب الإثيوبى الذى يعانى التدهور الاقتصادى والحروب الأهلية والصراعات على السلطة، فهناك نحو مليونى مشرد بلا مأوى يعانون المجاعة ، والأزمات تعصف بإثيوبيا من إقليم الأمهرة الرافض للحكومة المركزية إلى إقليم بنى شنقول الذى يقع فيه سد النهضة الإثيوبى، ويبنى عليه آبى أحمد آمالا فى أن ينقذه من أزماته الخانقة، التى تحاصره حتى داخل قبيلة الأورومو التى ينتمى إليها، بعدما تحولت صداقته مع جوهر محمد صاحب الشعبية الكبرى فى قبيلة الأورومو إلى خصومة لدودة، وكانت المظاهرات التى اندلعت عدة مرات فى أديس أبابا والعديد من المدن تحرق صور آبى أحمد وتندد بسياساته الشاهد الأبرز على مآزق آبى أحمد الذى تنهمر عليه المشاكل والأزمات بأشد من الأمطار على الهضبة الإثيوبية.
وكان تأجيل الانتخابات من أغسطس العام الماضى إلى يونيو ثم إلى سبتمبر المقبل مؤشرا آخر على عمق الأزمات وخشية آبى أحمد من هزيمة سياسية، فالأرض تهتز من تحت أقدامه، ولا يجد طوق نجاة غير الادعاءات بأن مصر هى من تحرك المظاهرات، وتغذى الحرب الأهلية، وتؤلب عليه القبائل، حتى قبيلته، وعقب مقتل الناشط والمغنى والرمز السياسى هاشالو هونديسا ونشوب موجة من العنف فى أديس أبابا والمدن الإثيوبية الأخرى، ألمح آبى أحمد إلى أن هونديسا ربما يكون قد قتل على أيدى عملاء مصريين بناء على أوامر من القاهرة.
هذه بعض نماذج من الوضع المتأزم للحكومة الإثيوبية ورئيسها، الذى يبحث عن حرب خارجية تنقذه من أزماته الداخلية المستعصية، ويريد أن يجعل من القاهرة العدو الخارجى للشعب الإثيوبى، ويدعى أنها تحيك المؤامرات، وتغذى الأزمات والنعرات العرقية والدينية، لكن الشعب الإثيوبى يتأكد يوما بعد يوم أن العدو الحقيقى هو آبى أحمد، فملايين المشردين والجوعى من الأقاليم الإثيوبية ليسوا ضحايا حرب خارجية، وإنما سياسات داخلية واضطرابات المسئول عنها هو آبى أحمد، وهذه ليست أقوالنا بل المظاهرات وحركات الاحتجاج والتمرد التى تعج بها المدن الإثيوبية، وتنادى بإسقاطه هو وحكومته، وتندد بسياساته وتتهمه بالمسئولية عن ضحايا العنف والقتل والحروب والجوع والتشرد.

ومثلما يحاول رئيس الوزراء الإثيوبى الاختفاء خلف عدو خارجى من مشاكله الداخلية، فإنه يسعى إلى إشعال الفتن بين الدول الإفريقية، ويلعب على وتر الوقيعة بين الأفارقة، ويدعى أن العرب يعادون الأفارقة، وكأن مصر والسودان من قارة أخرى، أو أن شمال إفريقيا فى صراع مع جنوبها أو شرقها. لا يقرأ آبى أحمد التاريخ، ولا يعرف ماذا فعلت مصر مع محيطها الإفريقي ودورها فى تحرير العديد من بلدان القارة، وكان آبى أحمد يحاول أن ينال تأييد عدد من الدول العربية، ويسعى جاهدا إلى الحصول على رضاهم وتأييد الملء الثانى والتفاوض من أجل التفاوض استهلاكا للوقت، ولما أدانت جامعة الدول العربية تلك المراوغات، وأعلنت رفضها أى خطوة إثيوبية أحادية حول سد النهضة والملء الثانى انقلب على العرب جميعا، وأخذ يهاجم جامعة الدول العربية، ويقول إنها تعادى إفريقيا، وإنها خرجت من البيت الإفريقى إلى البيت العربى ثم إلى مجلس الأمن، ويتجاهل أن مراوغاته وإفشاله كل المباحثات والحوارات، وادعاء أن النيل حق إثيوبى، وأنها وحدها لها الحق فى مياهه، ضاربا عرض الحائط بكل القوانين الدولية وحقائق التاريخ، بدلا من أن يعترف بأنه الذى أحبط كل المباحثات وأن مصر صبرت عليه طويلا، ومضت من جلسات إلى أخرى، وأنه من يراوغ ويفسد كل جهود الحلول الدبلوماسية، ويستخدم خطابات شعبوية لتحريض الداخل، متصورا أنه بذلك سيكسب شعبية، وأن تهويله بوجود مؤامرات وأن مصر ساعية إلى شن الحرب سوف يخرجه من أزماته.
إن تونس الإفريقية العربية هى من قدمت مشروع قرار لمجلس الأمن حول السد الإثيوبى ومخاطر الخطوات الأحادية، ولا يمكن تجريد تونس من إفريقيتها لإقدامها على تلك الخطوة، والعرب أكثر من نصفهم أفارقة، ولا يمكن لآبى أحمد تجريدهم من حقائق الجغرافيا والتاريخ، والروابط بين العرب وإفريقيا أعمق وأكثر رسوخا مما يظن آبى أحمد وحكومته المترنحة والغارقة فى طوفان الأزمات، وسياسات الوقيعة وبث الفتن لن تفيد آبى أحمد بل ستعمق أزماته.
إن مصر لا تريد إلا اتفاقا ملزما بخطوات ملء السد الإثيوبى، والإقرار بحقوق مصر والسودان المائية وفق الاتفاقيات والقوانين الدولية المنظمة للأنهار الدولية، وتتمنى تحقيق الخير والسلام لجميع البلدان ولكل الأشقاء الإثيوبيين، بشرط عدم الإضرار بباقى الأطراف، وإذا كان آبى أحمد قد انزعج من الالتفاف العربى حول مصر والسودان، وأنه تصور غير ذلك، فتلك أوهام عليه أن يفيق منها، فمكانة مصر العربية والدولية لا يمكن تجاوزها أو النيل منها، مثلما أن حقوق مصر المائية لا يمكن التفريط فى نقطة مياه منها، وأى واهم أو مغامر لا يعرف تلك الحقائق فإنه يسير فى طريق الندامة.
لمزيد من مقالات بقلم ــ عـــلاء ثابت رابط دائم: