يحق لنا الآن وبعد مضى سبع سنوات على بداية تجربة جديدة للتنمية المعاصرة فى مصر، يحق لنا أن نتأمل هذه التجربة وأن نكتب عنها وننظر لها؛ مع تحرى أكبر قدر من الموضوعية والبُعد عن المبالغة أو الهوى. وأحسب أن مثل هذا الدرس التأملى سيكون مفيداً فى إدراك جوانب التجربة الإيجابية والالتفات إلى بعض الجوانب التى تحتاج إلى مراجعة أو تقويم، ذلك أن التأمل الانعكاسى هو أحد السبل المهمة نحو تحقيق التقدم إلى الأمام والمضى قدما دون الاتجاه كثيراً إلى الخلف إلا من أجل تعلم الدروس وإثراء التجربة.وعلى هذه الخلفية فإننى سوف أتناول فى هذا المقال بعض الجوانب المرتبطة بتجربة مصر التنموية والتى بدأت منذ يونيو فى العام ٢٠١٤ والتى يجاهد المجتمع المصرى من أجل استمرارها واستكمالها فى المستقبل. ومن أول الجوانب التى يجب أن نلتفت إليها هنا هو سياق التجربة، وأقصد به الظروف الداخلية والإقليمية والكونية التى تشكلت فيها هذه التجربة. لقد كانت هناك ظروف صعبة تمتلئ بتحديات كبيرة: فثمة قوى للإرهاب تترصد بها من الداخل والخارج وتحاول أن تنقض عليها بين الحين والآخر، وثمة قوى إقليمية ودولية تساند هذه القوى الإرهابية وتمنحها مساندة لا هدف لها إلا تقويض هذه التجربة، وثمة قوى عاتية للعولمة بأسواقها وتدفقاتها ومعاييرها المزدوجة وأجنداتها المتغيرة والتى يشوبها قدر كبير من الغموض وعدم اليقين. فى قلب كل هذه الظروف كانت مصر تلملم جراحها ومشاقها بعد ثلاثة أعوام من التفكك والفوضى التى كادت تطيح بكل ما حققته مصر عبر تاريخها الحضارى من استقرار وتجانس. ولقد استدعت كل هذه الظروف قدراً كبيراً من الجلد والصبر والإصرار، وجميعها تشكل عبر إرادة صلبة للشعب الذى وجد قيادة حكيمة تمد له يدها وتصارحه بالحقائق وتضعه فى موقف الصدارة. ولقد كان الخروج من هذه الظروف تحدياً كبيراً وانتصاراً كبيراً فى نفس الوقت، وهو انتصار أصبح الآن محفوراً فى ضمائر المصريين حين تسمعهم يقولون لبعضهم فى أحاديثهم اليومية؛ والتى تلخص ما معناه: يكفى لهذه القيادة الحكيمة أنها أخرجتنا من هذه الفوضى، ووقفت صامدة أمام من كانوا يريدون لمصر أن تلج إليها، وإذا لم تفعل هذه القيادة غير ذلك فإنه يكفيها ويكفينا فخراً. نعم لقد عاد المجتمع المصرى إلى روحه التى سرقت منه، واستعاد ثقته بنفسه وقدراته، وبدأ الانطلاق واثقاً وقادراً.
وتنقلنا ظروف السياق إلى تأمل جانب آخر من هذه التجربة يرتبط بحجم المشكلات والحاجات والاستحقاقات التى كان عليها أن تواجهها. فهناك مشكلة تطل علينا من أى جانب نولى وجهنا شطره، فى مستوى الإسكان العشوائى والتحضر الرث، وفى التعليم وقدراته الاستيعابية وجودته، وفى الصحة وخدماتها، وفى العلاقة مع البيئة وتدهورها، وفى القيم والالتزام بأداء الواجب الأخلاقي؛ إننا هنا بصدد مجتمع «متروك»ينام التطرف بين جنباته، وتتراكم فيه الحاجات والمطالب غير الملباة. ولنا أن نتأمل هنا موقف القيادة ــ ومعها الشعب ــ فى مثل هذا الوضع. إنه وضع يوحى باليأس ويستجلب القنوط والعجز، ولكن أياً من هذا لم يحدث، بل إن الاستجابة كانت على قدر التحدي. فلقد كانت التحديات كبيرة، وكانت استجابة القيادة السياسية والشعب أكبر من أجل مواجهة شاملة وعامة. صحيح أن العين كانت مفتوحة بشكل أوسع على الاقتصاد، لأنه العمود الفقرى الذى يؤدى إغفاله إلى الموت، ولكن العين ظلت مفتوحة أيضاً على كل الأبعاد: التعليم والصحة والإسكان والمرافق والحماية الاجتماعية للفئات الضعيفة. وأحسب أن هذا الموقف يحتاج إلى قدر من التأمل، فى الدور الذى يمكن أن تلعبه الإرادة السياسية والشعبية فى اقتحام المشكلات، وفى ترتيب الأولويات على نحو يؤدى إلى السير بخطى سريعة فى اتجاهات معينة مثل الاقتصاد والاستثمار فى تكوين البنية التحتية، وفى توفير شبكات الحماية للفقراء، والسير بخطى أبطأ، ولكنها حاسمة ومؤكدة، فى مجالات أخرى كالتعليم والصحة، مع العمل على الحفاظ على قدر من الاستقرار الذى يستمد من بناء أركان الدولة ويستمد من ناحية أخرى من خفض الضجيج السياسى والصراعات السياسية التى لا تأتى فى مثل هذا الظرف إلا بتفتت وانقسام.
ومن ناحية ثالثة نستطيع أن نتأمل خصائص هذه التجربة، وأن ننظر فى الطرق التى تنفذ بها، ومثل هذا التأمل كفيل بأن يلفت النظر إلى طبيعة الممارسات التنموية فى التجربة، والجديد الذى تضيفه إلى تجارب التنمية الأخرى. ونستطيع أن نعدد هذه الخصائص بقدر من الاطمئنان الآن وبعد سبع سنوات من الممارسة. لاشك أن الإرادة السياسية القوية العزم تعد إحدى الخصائص المهمة، وهى إرادة سياسية تساندها إرادة شعبية، بل قوة مساندة شعبية ظهرت فى العديد من المواقف (لعل أهمها المساهمة فى تطوير قناة السويس، وتحمل عبء الإصلاح الاقتصادى وتحرير سعر الصرف). ومن الخصائص الأخرى عدم التهور والسرعة، فكل شىء يقوم على مكث ودراية ودراسة، وكل شىء يعود إلى الخبراء، ويراجع على البيانات والموارد.إنها التنمية المدعومة بالبيانات والخبرة . ويلتحم هذا المسعى الخبروى مع خصيصة ثالثة ترتبط بالاستقلال فى اتخاذ القرار والحسم فى إصداره، فالتنمية مصرية بحتة لا تستعير من هنا أو هناك، إنما تستفيد وتدرس وتنفذ ما هو فى مصلحة التجربة وفى مصلحة الوطن.
نحن إذن بصدد تجربة تحتاج منا إلى مزيد من التأمل والدرس، واستخلاص الدروس التى تعلمنا أن التنمية لا تُصدر لأحد وإنما الشعب هو الذى ينمى نفسه بنفسه، وأن التردد وعدم الحسم لا يصنعان تاريخاً، وإنما التاريخ يصنع بالإقدام والجسارة والإرادة السياسية الحرة. تحية الى كل من يشارك فى صناعة هذه المسيرة .
لمزيد من مقالات د. أحمد زايد رابط دائم: