رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

هيجل وفلسفة التاريخ

فى كل عصر وفى كل ثقافة يوجد عشرات بل مئات من الفلاسفة والحكماء. ولكن مع مرور الزمن تختفى أسماء الكثيرين منهم، ويبقى قليل منهم تعيش إسهاماتهم عبر العصور. هناك فى الفلسفة معيار نعرف منه أهمية الفيلسوف فى مسار تطور الفكر البشرى وهى أنه استطاع أن يبلور طريقة جديدة فى التفكير لم يألفها الناس من قبل. النتائج ثورية: فلا الحق يبقى حقا ولا الباطل باطلا. الفيلسوف الألمانى هيجل الذى كتب أهم أعماله فى العقود الثلاثة الأولى من القرن التاسع عشر يعد من الفلاسفة الذين أحدثوا انقلابا فى تفكيرنا. ولنضرب مثلا بسيطا، فمنذ صياغة أرسطو علم المنطق استقر الأمر على اعتبار الجمع بين المتناقضات خطأ منهجيا. هكذا سار الأمر فى السجالات الفلسفية فى أثينا والإسكندرية وبغداد ومدن أوروبا، حتى الفلاسفة أمثال ديكارت وبيكون الذين اتهموا منطق أرسطو بالعقم كانوا يسلمون بصحة هذه القاعدة.وجاء هيجل ليبين أن الجمع بين المتناقضات صحيح وضرورى لتكوين رؤية سليمة عن الواقع, فانتقل البشر من رؤية سكونية للطبيعة وللدين وللفن إلى رؤية تطورية،الواقع لا يستقر على حال، فلا يلبث أن يتحول إلى نقيضه، وتأتى لحظة ثالثة تكون تركيبا من النقيضين.  لم تكن هذه الفكرة ادعاء أو قولا يقوله هيجل.إذ قدم رؤية شاملة تنطوى على جهد موسوعى للعقل وللسياسة والتاريخ تقدم شواهد لا حصر لها تثبت صحة نظرته الجديدة.  كان الإنجاز الأكبر لهيجل هو الكشف عن فلسفة التاريخ، وكان هو أول من استخدم هذا المصطلح. صحيح أن المؤرخين القدامى مثل هيرودوت والطبرى كانوا يفاضلون بين السماع والعيان كمصدر للكتابة التاريخية، وكان ابن خلدون يرى أن التغيرات التى تطرأ على الحالة الاجتماعية لا تحدث بالصدفة لكنها تتم وفقا لقوانين يقوم علم العمران بالكشف عنها. والفيلسوف الإيطالى فيكو قدم رؤية لتاريخ العالم تستبعد أى تدخل لعناية من خارج العالم تتحكم فى التاريخ البشري. وتحدث الفيلسوف الألمانى لسينج فى كتابه تربية الجنس البشرى عن أهمية تطور الوعى الإنسانى فى تقدم أوضاع البشر. كل هذه تمهيدات فى مسار الفكر حتى جاء هيجل الذى استطاع أن يقدم أكثر الصيغ إحكاما لفلسفة التاريخ. يرى هيجل أن هناك ثلاثة نماذج للكتابة التاريخية: أولها التاريخ الأصلى وهو عبارة عن تجميع وسرد لأحداث تاريخية توضع وراء بعضها البعض، وثانيها التاريخ الانعكاسى وهى الطريقة التى يسعى فيها المؤرخ بأن يجعل من الحدث الماضى مرآة يتعرف من خلالها على ذاته وواقعه وهنا يبذل المؤرخ جهدا تأويلياً لتفسير الحدث الماضى. وثالثها التاريخ الفلسفى وهو الذى ينظر للتاريخ العالمى باعتباره تجليا للروح المطلق أو للعقل الكلى. وبسبب ذلك اُعتبر هيجل فيلسوفا مثاليا. فالعادة أن يكون الفكر انعكاسا للواقع ولكن هيجل جعل الواقع تحقيقا للفكر. فالواقع يتطور ووعى الإنسان به يتطور أيضا، بحسب هيجل، هى روح العالم أى الوعى الجماعي. فوعى الفرد لا يتشكل بصورة منعزلة ولكنه يكون متأثراً بوعى عصره. و«الروح المطلق» هى فكرة كونية لكنها لا تظل مجردة بل تتحقق فى ثقافات تختلف من شعب إلى شعب. ولكل ثقافة جوهرها الخاص وكل المنتجات الروحية من فن وعلم ودين ونظام حكم وفلسفة تكون وثيقة الصلة بهذا الجوهر. وقد تبدو هذه الرؤية سكونية ولكن بعض الباحثين يشبهونها بالعجلة، فالجوهر هو مركز العجلة وتنطلق منه الأوتار أى منتجات الروح حتى تصل إلى المحيط، وهو ما يسمح للعجلة بالحركة والتقدم إلى الأمام. هذه الرؤية الديناميكية تجعل التناقضات الموجودة فى تاريخ الفكر وفى المدارس الفنية وفى المفاهيم الميتافيزيقية واللاهوتية ليست تقابلا بين حق وباطل ولكنها لحظات فى تطور الروح. ونفهم من ذلك أن التغير التاريخى لا يخضع لرغبات الأفراد لأنه يحدث نتيجة لاكتمال الظروف الموضوعية لحدوثه. ورغم ذلك لا يهمل هيجل دور الفرد فى التاريخ، فتصوره لدور الفرد يأتى فى إطار مفهومه عن مكر العقل. فالقادة العظام مثل الإسكندر وقيصر ونابليون يحقق العقل من ورائهم أغراضه ربما دون وعى منهم. وفهم البعض من ذلك أن هيجل يجعل من القادة عرائس خشبية تحركها يد القدر. ولكنه ينكر ذلك تماما، فلا يستطيع شخص أن يكون قائدا تاريخيا إلا إذا كان واعيا باللحظة التاريخية التى يعيشها وعلى بصيرة بالإمكانات المتاحة. وهو يعمل بإرادة وحرية وشغف كبير. ويكمن مكر العقل فى أن الفرد رغم الارادة والحرية والبصيرة لا يتحكم فى نتائج أفعاله.  فلسفة هيجل من أبرز تجليات المثالية الألمانية.ولكن تلاميذه الذين تمردوا عليه ليصيغوا فلسفة مادية لم يستطيعوا الإفلات من تأثيره. فمادية فيورباخ جوهرها فكرة الاغتراب واسترداد الذات لخصائصها التى نقلتها إلى موضوع غريب. ومادية ماركس التاريخية تؤكد أن صراع المتناقضات هو محرك التاريخ. 


لمزيد من مقالات د. أنور مغيث

رابط دائم: