رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

الطبقة الوسطى...الهرولة إلى أعلى

لاشك أن التطلع إلى الصعود عبر سلم الحراك الاجتماعى هو أمر مشروع، فهو دليل السعى والدأب، ودليل الحركة والنشاط. وعلى هذه الخلفية تتشكل واحدة من قواعد العمران التى تربط بين النجاح فى مساعى الحياة بترتيب الأهداف القريبة والبعيدة، والسعى نحو تحقيقها فى عملية دائمة من الترقى والصعود. وبالإضافة إلى ذلك فإن نظامنا العقدى يجعلنا دائماً معلقين بعالم السماء بطلب من الله المدد والعون، وندعو له عز وجل ونحن ننظر إلى أعلى، مع رفع الأيدى إعزازًا وتبجيلاً لخالق الكون ومدبر شئونه. وفضلاً عن ذلك كله فإن النظر إلى أعلى يعكس -على سبيل المجاز- التطلع والتشوف ونِشدانٌ العلا.

ولقد آثرت أن ابدأ المقال بهذه المقدمة لكى لا يفهم الكلام الذى سوف أسوقه هنا على أنه نقد للترقى والتطلع إلى الفوق؛ فهذا أمر لا جدال فيه. إن الجدال ينصرف إلى ما يمكن أن يصيب هذا التطلع من تشوهات وما يصاحبه من عمليات قد تنبئ بفوضى العمران. وأطرح القضية التى أجادل حولها فى هذا المقال، والتى تنحصر فى سؤال أراه مهماً ونحن نتأمل أحوالنا وطرائقنا فى العيش كطبقة وسطى مفاده: ما الطرق الثقافية التى تتوخاها الطبقة فى الصعود إلى أعلى، وما الآليات الأكثر ظهورًا فى سلوكيات الصعود إلى أعلى؟ لاشك أن الحراك الاجتماعى للطبقة الوسطى، وأقصد به الحركة إليها من أسفل أو الحركة داخلها عبر شرائحها المتعددة، يتم فى ضوء معايير معروفة من أهمها التعليم وما يترتب عليه من انتماء مهني، والانخراط فى أشكال متعددة من ريادة الأعمال الصغيرة والكبيرة. وكلا الطريقين يفتح الباب أمام الداخلين إلى الطبقة من أسفل أو المتحركين داخلها إلى الدخول فى تنافس كبير يدفع بعمليات الصعود إلى شكل من أشكال الهرولة والجرى الذى يقطع الأنفاس. والمتأمل لمظاهر هذه الهرولة يجدها أنها متعددة؛ فهى تتجلى فى مظاهر أربعة يمكن أن نستمدها من ملاحظات سريعة وفق حياتنا الثقافية المعاصرة. أولها اتساع دائرة الطموح والتطلع كلما صعد المرء خطوة إلى الأمام، فهو يعدد من أهدافه ويضيف إليها، ولا يركن عند نقطة معينة ليقف ويتأمل ولكنه ينتقل من حال إلى حال ومن طموح إلى آخر. وإذ تتعدد صور الطموح، فإنها تتشكل حول طموحات مادية، فى معظمها، فهى تتجلى فى الانتقال إلى الدوائر الأوسع فى المسكن والمأكل والمشرب وقضاء وقت الفراغ ووسائل المواصلات. وليس فى ذلك غضاضة، فهو أمر مشروع ومألوف، ولكن غير المألوف هو أن يؤدى هذا الشبق المادى إلى إهمال الجوانب المعرفية والمعنوية، بل وإلى إهمال المهنة التى تتحول إلى وسيلة لتراكم المال (أفكر فى هذا السياق فى الأطباء وأساتذة الجامعة الذين يديرون المهنة إدارة اقتصادية)؛ وتكون نهاية ذلك حدوث صعود مادى يناظره نكوص مهنى ظاهر. ومن مظاهر الهرولة أيضاً فى عمليات الصعود ما يظهر لدى الشباب من طموح زائد لا يتناسب مع ما لديهم من امكانات، فهم يرغبون فى تحقيق ما حققه سابقوهم فى مراحل قليلة وبشكل سريع، غير ناظرين إلى أن حرق المراحل يحرق الأحلام. وأخيراً فإن الصعود لا ينم عن أحلام كبيرة، ولا يكشف عن معان مضمرة للتجاوز والترفع والبحث عن الانطلاق والتجدد. وتعمل الهرولة نفسها على مزيد من فقدان المعنى، فالمهرول لا يملك وقتاً لكى يفكر ويتدبر أو أن يبحث عن المعانى الضائعة فى الحياة، بقدر ما يتعلق بالأشياء المادية الصغيرة أو أشكال القوة المحدودة، ويخلق منها أشياء كبيرة، ويعمل بشكل دائم على تحويل العوالم الصغيرة إلى عوالم كبيرة.

وتنتج عمليات الهرولة السريعة إلى عالم الفوق آليات خاصة يستخدمها أصحابها لتحقيق طموحاتهم السريعة. ويمكن عبر كثير من المشاهدات أن نحدد عدداً من هذه الآليات، منها: التقليد الأعمى للأصدقاء والأقارب بحيث يبدو الأمر وكأن الجميع يقف فى طابور واحد يبدأ من مكان ما فى قرية أو مدينة وينتهى عند مارينا ومراسى والجونة، ينتظر فيه الجميع دون وعى بالمكان الذى سوف ينتهى عنده. وعندما يتسابق الجميع على هذا الطابور العقارى فإنهم يتسابقون أيضاً على ما يحيط به من فرص أخرى اجتماعية وسياسة. وعندما ينتقل الأمر إلى هذه العوالم الاجتماعية والسياسية تظهر آلية أخرى نطلق عليها آلية القفز والإزاحة، فعندما يقفز المرء نحو مكان معين أو مصدر معين للقوة فإنه يزيح الآخرين ويبعدهم.

والمتأمل لعملية الهرولة هذه وآلياتها يكتشف أنها عملية عامة، ولكنها أكثر ظهوراً فى الشريحتين العليا والوسطى من الطبقة الوسطى. فالقابعون فى أسفل الطبقة غالباً ما يتوقف طموحها وهرولتهم عند حد معين إلا إذا فتحت لهم أبواب عليا. أما أصحاب المهن عند المنتصف ومن يعلونهم فى المكانة الطبقية فإنهم أكثر هرولة لأنهم يملكون مصادر مادية وآليات صعودية. ونستطيع فى نهاية المطاف أن نشير إلى خصيصتين تجعلان هذا الصعود المهرول لا يعمل على تماسك الطبقة ولا يحقق أملاً كبيرًا. الخصيصة الأولى أنه صعود يقوم على قدر كبير من الامتعاض وعدم الرضا، فترى الشخص الصاعد المهرول أكبر ناقد للحياة وأكبر ناقم عليها ويمتلئ خطابه بالحديث عن «الناس المديكور» الذين يحصلون ما يحصلون عليه. والثانية أن من يصعد ويستقر لا ينظر إلى أسفل المجتمع؛ فعلاوة على نقده اللاذع للمجتمع، فإنه ينظر إليه نظرة إحسان ولا يسعى إلى تكوين شبكات اجتماعية إيجابية تجسر لرأس مال اجتماعى مدنى يضع كل هؤلاء فى خدمة مجتمعهم وفى تحقيق أعلى درجات التماسك لا من خلال توسيع دائرة الإحسان، ولكن من خلال توسيع دائرة العمل المدنى المنتج لخدمات وقيم اقتصادية مضافة وقيم اجتماعية تشكل أرصدة للواجب الاجتماعى والمسئولية الأخلاقية.


لمزيد من مقالات د. أحمد زايد

رابط دائم: