أعتقد أن القدر وحده هو الذى سوف يعطى دول حوض النيل، وإذا شئنا الدقة (مصر والسودان)، أو ما يعرف بدول حوض النيل الأزرق، فرصة جديدة لالتقاط الأنفاس، وإعادة التفكير، للوصول إلى اتفاق، حتى لا ينتقل صراعها على النيل، ومصادر المياه، أو النفوذ، كما يظن البعض، إلى صراع عسكرى مدمر، وطويل، ومكلف، وسيؤدى، فى حالة استمراره بلا حل، إلى أن يؤخر انتقال هذه المنطقة المهمة للعالم إلى وضع اقتصادى أفضل لشعوبها ككل، ولمصلحة حياة الناس، وليس الحروب، والانتكاسات، عبر الانزلاق للحروب المدمرة للجميع، خاصة أن هذه المنطقة مكتظة بالسكان، وتحتاج إلى السلام، وإلى رؤية عاقلة، وسياسة متزنة، وحكيمة، وطويلة، بل مخططة لأوضاعها الاقتصادية، أما إذا انتقلت إلى الحروب، فإن ذلك سيؤثر عليها، وعلى مستقبل العالم ككل.. وما أعنيه أن السيف المسلط حول الملء الثانى للسد فى فيضان هذا الموسم لا يمكن تجاوزه، ولن تستطيع إثيوبيا أن تسير فيه، رغم أنها وقعت فى خطيئة كبرى، أنها حولت السد إلى قضية انتخابية، أو دعائية، للإثيوبيين، أو نقطة قوة للحزب الحاكم (المرشح آبى أحمد)، مما يضعها أمام مسئولية تاريخية أمام شعبها، ستحاسب عليها، وللاستمرار فى الحكم، تحتاج إلى مكاشفة الشعب الإثيوبى، ونحن ندرك خطورة هذا الملء، خاصة مع شقيقتنا السودان، فى هذا الصراع الطويل، والممتد، لحفظ حقوقنا، وإنقاذ شعبينا، ونحن نرى إثيوبيا، وقيادتها، وهى تنزلق إلى الصراع بطريقة شعبوية فجة، ومخيفة لمستقبل كل إفريقيا، والقرن الإفريقى، وهى لا تؤذى أحدا إلا من يستخدم هذا السلاح الخطير، فإشراك الشعوب فى قضية حساسة ودقيقة لهذه الغاية؛ يأتى بنتائج عكسية دوما، بل يؤدى إلى اتخاد قرارات مصيرية تدفع بالبلاد إلى حافة الحروب، والمشكلات، ولعل المصريين قد انتبهوا، منذ البداية، لهذه الخطورة، بل تحلوا بالشجاعة، والثقة، والقدرة على إدارة هذا الصراع، والانتصار فيه، ولم يصبح قضية شعبوية، رغم أنه يمتلك كل هذه المواصفات الكامنة، لأن مضمونه سلاح المياه المؤثر جدا على عصب أى شعب، لكن المصريين الآن قد أصبحوا من الشعوب القليلة التى لديها حكمة فى التعامل مع قضاياها الحساسة، والخطيرة على مستقبلها. إن هناك ثقة متبادلة بين الشعب المصرى وقيادته الراهنة، هذه الثقة لا تتزعزع، لأنها تعمل لمصلحته، بل المنطقة كلها، بل إننا ندرك عمق رؤية هذه القيادة الحكيمة للمستقبل، رغم الحملات الدعائية المستمرة التى تشنها قطاعات فى الخارج، أو الإخوان المسلمون، الذين هُزموا داخليا فى معركة بسط هيمنتهم على الحكم، حيث رفضهم الشعب، واقتلعهم منذ سنوات، ويكاد يكون الاقتلاع من الجذور، وهذه الثقة فى محلها، فمنذ بدأت هذه الأزمة، منذ ٧ سنوات، ومصر تستعد لها فى كل المجالات، إقليميا وعالميا، والأهم داخليا، فقد أصبحت مشكلة المياه على رأس الأولويات، وتمت صياغة سياسة مائية محكمة، سيكون لها تأثيراتها فى المستقبل على كل مصر، وتم كذلك تنويع مصادر المياه، وإعادة استخدامها لأكثر من مرة، ودخلنا عالم تحلية المياه، وتبطين الترع، وترشيد الاستخدام، وأصبح كل مصرى ومصرية يعرف ويقدر أننا دخلنا مجال الفقر المائى، وهذا يستلزم الترشيد، والتعامل مع نقطة المياه بحذر وانتباه كبيرين، وأصبح الاستثمار فى هذا المجال يدخل فى الحفاظ على مستقبل الوطن وأبنائه، أما إقليميا، فالتاريخ سيذكر للقيادة المصرية أنها تحركت إفريقيًا، فى دول منابع النيل، وفى دول القرن الإفريقى، ولدى إثيوبيا نفسها، وكل جيرانها، والدول المحيطة، محذرًة، لكى يعرف الجميع، من خطورة الصراع على النيل، ولكى يدرك الكل أنه من الضرورى أن تكون هناك اتفاقيات، وتعاون مشترك، وأن النيل مصدر للتعاون، والتنمية، والاستثمار، وليس الصراع مع دول القارة حوله، مع الحفاظ على حصتى دولتى المصب، اللتين آلتا إليهما ربانيا أولا، ثم عبر اتفاقيات شارك فيها العالم القديم والعالم الجديد ثانيا، ونحن مازلنا فى مصر نذكر أن نابليون بونابرت هو أول من احتفل مع المصريين بعيد وفاء النيل (١٧٩٨)، وذكر، أو كتب، أن تُقيم إمبراطورية على النيل لا تنتقل من دول المصب إلى دول المنابع، لكى تقيم جسرا يحمى تدفق النيل، وليس منع جريانه، ولن أترك نقطة مياه فى كل الدول تذهب إلى البحر، أو إلى المستنقعات، أما الإنجليز فهم من وقعوا اتفاقية ١٩٠٢، التى حمت حصص مصر والسودان، مع إثيوبيا الحرة، حيث لم تكن تحت أى احتلال، كما وقعوا اتفاقية 1929، التى منعت بريطانيا، من خلالها، نيابة عن تنزانيا وغينيا وأوغندا، إقامة أى منشآت من بقية دول الحوض على مسرى النيل، وأعطت لمصر حق الفيتو حال إقامة أى مشروع دون موافقتها، وحددت هاتان الاتفاقيتان حصتى مصر والسودان، وإلغاؤهما يفتح الحدود للحروب المقبلة فى كل إفريقيا، والتى لن تتوقف، وستكون مدمرة للعالم الجديد، الذى يتنافس عليه الأمريكيون، والصينيون، والروس، فعلى الدولتين العظميين الأوليين أن تعرفا أن إفريقيا لن تكون نقطة صراع على نفوذهما، كما أن الشعوب فى إفريقيا، خاصة فى مصر وإثيوبيا والسودان، لن تكون سخرة تعمل لمصلحة هذه المستعمرات الجديدة، وتنزلق إلى حالة الصراعات، وهذا ما يجب أن يفهمه آبى أحمد، الذى ينزلق بعقلية سطحية، وانتهازية سياسية رخيصة، مؤقتة، إلى نقطة الصراع، دون أن يدرى أن الشعوب فى عالمنا تغيرت، وسرعان ما سوف تكتشف الحقيقة الغائبة، أو التغييب، ونحن ننتظر المبعوث الأمريكى لمنطقة القرن الإفريقى جيفرى فيلتمان، مبعوث الرئيس جو بايدن، لكى يدرك أن مصر، التى تدير الصراع العربي- الإسرائيلى بمفهوم السلام, لن تستطيع أن تقبل أن يكون هناك ضغط عليها باستخدام المياه، أما أشقاؤنا العرب فهم يحتاجون منا إلى درس جديد، لأن صراع النيل نقطة حاسمة فى تاريخنا، بل مستقبل الإقليم ككل.. أعتقد أن الأزمة مستمرة، وتحتاج إلى حشد كل القوى، وليت القوة العسكرية، والسياسية، والدبلوماسية، والاقتصادية كلها تكون فى سلة واحدة..
لمزيد من مقالات أسامة سرايا رابط دائم: