رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

ابن رشد والنهضة الأوروبية

ليس للفلسفة وطن ولكن للفلاسفة أوطان. فهم يكتبون بلغة معينة ويعيشون فى مجتمع يفكرون فى مشكلاته ويعبرون عن تطلعاته. نلاحظ هذه المفارقة بشكل واضح مع الفيلسوف الكبير ابن رشد. فهو مسلم وعربى ولكن كان لأفكاره تفاعلات وتأثيرات في أوروبا أكثر مما كان لها فى محيطها الذى نشأت فيه. كان آخر عنقود فلاسفة المسلمين الذى امتد إنتاجهم الفكري على مدى أربعة قرون من بخارى إلى الأندلس. وكان ابن رشد مثل كبار مفكرى هذا العصر طبيبا وفقيها وفيلسوفا. واهتم فى مجال الفلسفة بشرح مؤلفات أرسطو والتعليق عليها، كما اهتم بالدفاع عن الفلسفة فى مواجهة هجمات الفقهاء خصوصاً الغزالى. مال الغزالى إلى تكفير الفلاسفة لقولهم بثلاثة آراء: أولها أن العالم قديم وليس مخلوقا، وثانيهما أن علم الله يتعلق بالكليات وليس بالجزئيات، وثالثها أن البعث للأرواح فقط وليس للأجساد. ويرد ابن رشد بأنه لا يمكن تصور إجماع حول هذه القضايا، والقول برأي فيها أو بما يخالفه لا يستوجب الخروج عن الملة، لأنها ستظل دائماً محل خلاف. كان هاجس ابن رشد الأساسى هو تجاوز التعارض الظاهرى بين الإيمان والعقل. فهو يرى أن الحق واحد ولكن العامة والبسطاء لا يستطيعون إدراكه إلا من خلال السرد والمجاز والصور الخيالية. أما الحكماء وهم الأقلية فيتوصلون إليه بالأدلة العقلية البرهانية. توفى ابن رشد فى أواخر القرن الثانى عشر الميلادى، وفى القرن الثالث عشر حدثت حركة ترجمة كبرى لأعمال الفلاسفة والعلماء العرب إلى اللغة اللاتينية. وكان يظهر على غلاف الكتاب عنوانه واسم الفيلسوف المسلم واثنان من المترجمين، أحدهما يهودى والآخر مسيحى، حيث كان اليهودى يترجم من العربية إلى العبرية، ثم يترجم المسيحى من العبرية إلى اللاتينية. ويعد هذا دلالة على وجود حركة فكرية كبرى تجمع بين أتباع الأديان التوحيدية الثلاثة. وشاع فى أوروبا فى هذا الوقت أن أرض الإسلام هى أرض الفلسفة، حتى أن أبيلار كتب في القرن الثاني عشر رسالة بعنوان حوار بين مسيحى ويهودى وفيلسوف ويقصد بهذا الأخير المسلم. أعمال الفارابى وابن سينا والغزالى حظيت بتلق متزن، يجمع بين قبول بعض الأفكار ونقد البعض الآخر. لكن أعمال ابن رشد قوبلت بضجة كبرى وصدرت بيانات من الكنيسة بتكفير كل من يتبنى آراءه. ولم تكن هذه الضجة إلا انعكاسا للحماس الكبير الذى لاقته أعماله لدى الشباب. وصارت هناك جماعات رشدية فى السوربون بباريس وفى إيطاليا وألمانيا وتشيكوسلوفاكيا. لم تكن الرشدية تيارا فكريا متجانسا كما كانت تنطوي علي صور من سوء الفهم أو سوء التفسير. ولكن أهم ما كانت تتسم به هذه النزعات هو انطلاقها من التمييز الرشدى بين طريق الوحى وطريق العقل. وبناء على ذلك كانوا ينادون بفتح المجال لدراسة العلوم الطبيعية وفصلها عن دراسة العلوم الدينية. موجة ثانية من الترجمة حدثت فى القرن الخامس عشر تبعها موجة ثانية من انتشار الأفكار الرشدية فى أثناء عصر النهضة فى إيطاليا. يقول جورج سارتون مؤرخ العلم: إن الصخب الذى أحدثته أفكار ابن رشد فى عقول الأوروبيين خلال أربعة قرون: من القرن الثالث عشر إلى نهاية السادس عشر هى التى تستحق أن نطلق عليها بحق العصر الوسيط، لأنه عصر انتقال من الفكر القديم إلى الفكر الحديث. الدراسات فى حفريات المعرفة تبحث عن صلات في أوروبا بين أفكار ابن رشد ومبادئ الحداثة مثل ازدهار العلوم الطبيعية أو تأسيس العلمانية أو قبول المساواة بين الرجل والمرأة. وهذا يعني أن فكر ابن رشد قد دخل إلى أوروبا فى مناخ كان مهيأً لاستقباله. كل هذا الآن صار تاريخا. وفى عام 1980 أصدر البابا يوحنا بولس الثانى مرسوماً بعنوان الإيمان والعقل يعلن فيه أن الكنيسة كانت مخطئة حينما تصورت أن هناك تعارضاً بين العلم والإيمان ويرجع ذلك إلى سوء تفسير النص المقدس أوربما بسبب أن العقل كان فى مرحلة لم يتمكن فيها من اكتشاف معنى النص. ويقر البابا بثلاثة مبادئ: التمييز في طبيعة المعرفة بين العلم والايمان وقبول استقلالية العلم والدفاع عن حرية البحث العلمي. وبناء على هذا المرسوم ردت الكنيسة الاعتبار إلى جاليليو وداروين. ويقول آلان دو ليبيرا مؤرخ فلسفة العصور الوسطى إنه يمكن للقارىء أن يحمل كتاب فصل المقال في ما بين الحكمة والشريعة من الاتصال لابن رشد مفتوحا فى يده اليسرى ومرسوم البابا في اليمنى وينتقل ببصره بين النصين ليكتشف أن المرسوم ترجمةلأفكار ابن رشد رغم أن اسمه لم يُذكر. ومؤخراً وفى ظل الأزمات التى يحدثها التطرف الإسلامى وتزايد العنصرية فى أوروبا يستدعى كثير من المثقفين المسلمين الأوروبيين ابن رشد بوصفه فقيها وفيلسوفا، يستلهمون أفكاره لصياغة فقه جديد يسمح للمواطن المسلم الأوروبى بأن يرضى ربه وفى نفس الوقت يقبل بالنظام العلمانى وبالمساواة بين الرجل والمرأة وبطاعة القوانين الوضعية. 


لمزيد من مقالات د. أنور مغيث

رابط دائم: