رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

بريد الجمعة.. يكتبه: أحمد البرى
قلب يحتضن الجراح!

يكتبه أحـمــد البــــــرى

أنا شاب تعديت سن الثلاثين ببضع سنوات، وقد عشت حياة كلها صبر وكفاح، وأذكر عندما كنت طفلا أننى كنت أذهب مع والدى إلى الحقل، وأتأمل من حولى، وأتفحص شخصية والدى وأتعجب لأمره، لما يتصف به من صفات غريبة، إذ إن الضحك لم يعرف إليه سبيلا، وبرغم أنه كان حنونا جدا، إلا أن طريقة تعامله معنا اتسمت بشىء من «القسوة المعنوية» ـ إن صح التعبير ـ فهو لم يضربنى، لكنه لم يحتضني مثلما كان يفعل آباء أصدقائى، وكنت أشاهد أمى عندما يدخل البيت تهم واقفة!  

كانت حياتنا عادية جدا، وبرغم الفقر والمنزل الصغير جدا المبنى بالطين، فإننا كنا سعداء، ومازالت صورة أمى وهى تلمع لنا الأحذية وتكوى ملابسنا المدرسية ماثلة أمامى، وكانت حريصة على أن نظهر أنا وأخواتى بمظهر جيد وسط زملائنا، ومرت الأيام وكبرنا والتحقنا بالجامعات، ومرض أبى، ولزم الفراش عدة أسابيع ثم رحل عن الحياة، وبكاه كل من نعرفهم تعبيرا عن حزنهم لفراقه، وأحسست وقتها أن الدنيا توقفت، ثم سرعان ما تداركت الأمر، وقلت فى نفسى: «لقد ترك أبى لى أما وثلاث بنات، وعلىّ أن أتحمّل مسئوليتهن» وبالفعل ساندت شقيقاتى إلى أن أتممن دراساتهن، وعرض علىّ أحد أقاربى عقد عمل فى الخارج، فسافرت، وبعد ذلك بستة أشهر توفيت والدتى، فكانت الضربة المؤلمة الثانية، وفكرت فى العودة إلى مصر، لكن بعض أصدقائى نصحونى بالبقاء فى الخارج إلى أن أتمكن من تسديد ديوننا، وتلبية متطلبات الأسرة، وتقدم عريس لأختى الأولى، على قدر كبير من المستوى المادى والاجتماعى، فقررت أن تظهر فى الصورة المناسبة، ولا تكون أقل من الأخريات، وفعلا كل ما طلبته أحضرته لها، وكذلك بالنسبة لأختىّ الثانية والثالثة، وأصبحت أعمل ليلا ونهارا من أجل إسعادهن. 

وذات يوم فاجأتنى أختى الكبرى بمكالمة هاتفية طالبة عودتى إلى مصر، وقالت فى كلمات مقتضبة: «أختك تعبانة جدا، ولا دكتور عارف عندها إيه»، وكانت قد وضعت مولودا قبل ذلك بثلاثة شهور، وعدت إلى مصر، وأخذتها إلى أكثر من مستشفى، ورافقت زوجها فى كل «المشاوير» إلى الأطباء، وتبين أنها تعانى اضطرابا فى الشفرة الجينية بجذع المخ، نتج عنه ورم كبير، وكان لابد من الجراحة، وأبلغنا الطبيب أن العملية خطيرة، وأنه سيجريها على مسئوليتنا، فوافقت، وقلت لزوجها إن إرادة الله نافذة فى كل الأحوال، وحدث فى أثناء العملية أنها أصيبت بنزيف، ومكثت فى العناية المركزة فترة كبيرة فاقدة الوعى، وهنا بدأ زوجها فى الانسحاب شيئا فشيئا، وحين أعطانى بطاقتها الشخصية أيقنت تماما أنه يريد الابتعاد نهائيا، وبالفعل تحجج بالسفر لأمر ما، وتركنى حائرا بين أختى وعملى بعد أن أوشكت إجازتى على الانتهاء، وقررت ألا أترك أختى التى أصبحت لا تسمع نهائيا، ولا ترى إلا بعين واحدة. 

وكنت خلال عملى بالخارج قد تعرفت على فتاة جميلة متعلمة من أسرة مستواها المادى والاجتماعى جيد جدا، واتفقنا على الارتباط، ولكن بعد أن أكون جديرا بها أمام أهلها، وكانت دائما تتصل بي للاطمئنان علىّ، وتسألنى عن موعد عودتى، وكنت أرى حبها فى كل شىء حولى، وقد فاجأنى الطبيب الذى أجرى العملية لأختى بطلبه إجراء بعض الفحوص لى، ولمّا رفضت صرخ فى وجهى: «اسمع الكلام»، وبالفعل خضعت للتحاليل والأشعات، وعرضتها عليه، ففحصها ثم قال: «مش قلت لك، إنت عندك نفس الورم»، دى حاجة فى الجينات»، وأبلغنى أن العلاج بالإشعاع هو أقل الخسائر، وفى أثناء وجودى معه اتصلت بى حبيبتى، وأعادت طرح السؤال: متى ستعود؟، فحاولت تبرير الأمر، وسألت نفسى: «ماذا ستفعل لو عرفت أننى أعانى ورما نادرا ليس له علاج؟، ولو وافقت.. هل سيوافق أبوها؟»، وقررت أن أكون قاسيا على نفسى أولا قبل قسوتى عليها، وأنا أدرك الآلام الجسدية والنفسية التى سوف أعانيها، وأبلغتها أننى سأتزوج بأخرى نظرا لظروف خاصة بى، وأخذت أختى المريضة بعد أن تحسنت حالتها نوعا ما، لكى تقيم لدى أختى الثانية المتزوجة فى بلدتنا، ورجعت إلي القاهرة لأبدأ رحلة العلاج، وأقرر كيف ستكون حياتى فى ظل الظروف الجديدة، وكان لى صديق من القاهرة يملك شقة بها، فأعطانى مفتاحها، وأجريت لى جلسة إشعاع، وفى اليوم التالى استيقظت على ألم شديد فى رأسى مثل «صعق الكهرباء» مع قيئ مستمر، ووقعت على الأرض، ودخلت فى حالة «إغماء متكرر»، ولم أفلح فى الخروج من الشقة، وكان إنقاذى فى حاجة إلى معجزة، وقد أراد الله إنقاذى، إذ أحست الجارة فى الشقة المجاورة بأنه يوجد شىء ما غريب فى الشقة التى تعرف أنها مغلقة، فكسرت الباب، ووجدتنى ملقى على الأرض، فنادت الجيران، وحملونى إلى المستشفى حيث خضعت لفحوص وأشعات وعلاج جديد.  

وتولت أختى الكبرى كل شئونى، وأحيانا كانت تدعونى للإقامة معهم بعض الوقت بمنزلها، ولكنى استشعرت عدم راحة زوجها من وجودى، فقررت أن أجد حلا مناسبا لظروفى، وكنت قد لمست فى الجارة التى أنقذتنى مواصفات «الست الجدعة» كما لمست منها اهتماما إنسانيا بى، وعرفت أنها مطلقة ولديها طفلان، فعرضت عليها الزواج، فرحبت بى، ومرت ست سنوات على زواجنا، وأنجبنا ولدا هو قرة عينى، ومازلت أعانى هذا الورم الذى كاد أن يدمرنى.  

وبالنسبة لفتاتى الأولى فأعلم أننى كنت قاسيا عليها، وتظاهرت بإهمالها، وعدم الاهتمام بها، ثم ابتعدت عنها بعد أن قرأت المشهد بصورة واقعية، ولا أعلم عنها شيئا الآن، فهى من أقصى الشمال وأنا من أقصى الجنوب فى مصر، وغيّرت رقم هاتفها، وأتمنى لها حياة سعيدة. 

إننى أدعو الله أن يشفى أختى المريضة، وأن يعوضها خيرا، ولعل زوجها الذى تخلى عنها يدرك خطأه، فالدنيا لا تدوم لأحد، ولعل رسالتى تكون عبرة وعظة للجميع. 

 

 ولكاتب هذه الرسالة أقول:

استوقفتنى فى رسالتك مواقف عديدة أولها ابتعاد زوج أختك عنها بمجرد علمه أنها مريضة، متجاهلا أن تخلى الزوج عن زوجته وقت المرض، هو تخلّ عن الواجب، فالله عز وجل عيّن الزوج قائما على شئون زوجته بقوله تعالى «الرجال قوامون على النساء»، وهذا تكليف يقتضى من الرجل مراعاة زوجته والإنفاق عليها، بل إن ما فعله يعد خيانة للوصية النبوية: «استوصوا بالنساء خيرا».  

إن «الفضل يرد بالفضل، وجزاء الإحسان  هو الإحسان، وحتى فى حالة الكراهية والطلاق، فإن رسول الله نبه الزوج إلى عدم نسيان فضل زوجته عليه وعلى أبنائه»، فالأسرة تمر بمراحل سارة وأخرى حزينة ومشكلات، كما ينعم الأزواج بالأوقات الطيبة الهادئة والجميلة.  

ولابد للزوج أن يضع فى حسبانه الأوقات غير السارة والتحديات، ولا يجوز له التخلى عن أسرته، فالأسرة تعنى التكافل والتراحم، والمطلوب شرعا من الرجل أن يقف وقوفا حقيقيا بجانب زوجته، وهذا حق لها عليه، وعندما يفعل ذلك يكسب احترامها وحبها له، لأنها ستقدر له ذلك بعد خروجها من محنتها، كما أنه يعطى قدوة حسنة لأبنائه فى تربيتهم، وسينعكس صنيعه عليهم عند كبرهم.  

إن الزواج تحقيق للسكن والمودة والرحمة بين الطرفين، ووفاء كل طرف للآخر سواء فى حياته الطبيعية أو وقت مرضه، إن كان عارضا مؤقتا أو دائما مزمنا، وأكثر من ذلك فإن الوفاء مطلوب حتى بعد الوفاة، فيشعر الجميع بالقيمة الحقيقية للأسرة بقدر أهمية التماسك والتعاضد والتكافل بين أفرادها.  

إن المرض إذا أصاب أحد الزوجين، فمن واجب الآخر أن يقف إلى جانبه فى محنته، وأن يساعده، فالزواج مؤسسة اجتماعية قائمة على الحب والتعاون والمودة، وتخلى الزوج عن زوجته فى مرضها أو مرورها بإشكالية صحية أو حياتية، نوع من نكران الجميل، وعدم احترام وتقدير الذات للشخص نفسه.  

والوفاء من أروع الصفات التى يتحلى بها المرء، ويظهر ذلك فى الإخلاص والعطاء، كما أن التخلى عن الزوجة بسبب مرضها ينافى الشرع، لقول الله تعالى: «وجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً»، وقوله أيضا «هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ»، وبالتالى على الزوج والزوجة أن يساندا بعضهما فى السراء والضراء، خصوصا وأن الضرر النفسى الذى يترتب على إهمال الزوجة وإهانتها يكون أشد وطأة من المرض العضوى الذى تعانيه، فبدلا من أن تفكر فى حالتها الصحية، وسبل علاجها توجه فكرها إلى رد فعل الزوج، وهذا يعقد حالتها ويجعلها أسوأ بكثير مما كانت عليه.  

ولقد كان على زوج أختك أن يفترض بأن بلاء هذا المرض سلط عليه، فكيف كان سيشعر حينئذ إذا تخلت عنه زوجته؟.

وفى الحقيقة فإنه ارتكب جريمة كبرى، فحتى الحيوانات لا ترمى أنثاها، وليس من شيم الأخلاق ولا نبلها ولا من أسس الزواج الشرعية أن يترك الزوج زوجته فقط لمرضها، الذى لا يسقط عنه واجباته تجاهها، ومن مظاهر الرحمة التى غابت عنه ألا يتبرم من مرضها ولا يتأفف، بل يسعى إلى خدمتها ويساندها ويكون بجوارها قدر المستطاع. 

أما أنت، فصنيعك مع أخواتك سيكون فى ميزان حسناتك، فلقد ضربت مثلا رائعا فى مساندتهن حتى وإن كان ذلك على حساب سعادتك، وأتذكر هنا، جابر بن عبدالله، حيث مات أبوه شهيدا يوم أحد، وترك له تسع بنات أخوات لا عائل لهن إلا هو، فماذا فعل بهن؟.. يقول جابر: هلك أبى وترك تسع بنات، فتزوجت امرأة ثيبا، فقال لى رسول الله: «تزوجت يا جابر؟» فقلت: نعم، فقال: «بكرا أم ثيبا؟» قلت: بل ثيبا، قال: «فهلا جارية تلاعبها وتلاعبك، وتضاحكها وتضاحكك؟» قال: فقلت له: إن عبدالله ــ أى أبوه ــ هلك وترك بنات، وإنى كرهت أن أجيئهن بمثلهن، فتزوجت امرأة تقوم عليهن وتصلحهن فقال: «بارك الله لك»، أو قال: «خيرا».. إنه الفكر الراقى الذى طبقه جابر، فلقد ضحى بحقه فى الزواج ببكر، وتزوج ثيبا، من أجل أخواته، وتدبر قوله: «فتزوجت امرأة تقوم عليهن وتصلحهن»، فلم يكن له هدف من الزواج فى المقام الأول إلا القيام على راحة أخواته، ولم يكن همه إسعاد نفسه، بقدر تفكيره فى إسعادهن، وأراك قد طبقت هذا الفكر السهل الممتنع بزواجك من السيدة المطلقة التى ستكون خير عون لك فى الحياة، ولن أتطرق إلى فتاتك الأولى، فمن كلامك أنك لم تخبرها بمرضك، وكان الواجب أن تطلعها على ظروفك، ولها أن تقرر، إما أن تستمر معك، أو لا، وعلى كل حال، فإن الصبر من أهم الصفات التى يجب أن تتصف بها الزوجة إذا حلت بالبيت مشكلة، لأن البناء ليس كالهدم، ويحتاج الأمر إلى جهد وصبر وطول نفس, حتى يستطيع الزوج الوقوف على قدميه من جديد, وكل شىء فى أوله شاق، ويقول تعالى: «لقد خلقنا الإنسان فى كبد»، وقال ابن كثير: «يكابد أمرا من أمور الدنيا, وأمرا من أمور الآخرة, ويكابد مضايق الدنيا وشدائد الآخرة»، ويظهر دور المرأة فى الشدائد, فهى التى تقوم بدور إيجابى تجاه زوجها وقت المحن، خصوصا دعمه نفسيا عن طريق بث الأمل فيه, وتذكيره بالصبر والرضا، وعليها نشر حالة بيئية فى بيتها من الهدوء والاستقرار والقناعة, وتذكير أسرتها بمن هم أقل حالا وأكثر معاناة, وتذكيرهم بالنعم التى يملكونها بفضل من الله، وعليها وضع خطة هى وأولادها فى ترشيد طلباتهم وحاجاتهم التى يريدونها, فيتكاتف الجميع للمرور من نفق الأزمة المؤقتة، والمهم فى النهاية إشعار الزوج بأن الأسرة كلها يد واحدة, قانعة وصابرة معه وقت أزمته وضيقه . 

إننى ألمس فى رسالتك القناعة والرضا، وحسن الظن بالله، وكذلك زوجتك، وبالتأكيد فإن الفرج قادم, فمع العسر يأتى اليسر، ومع الضيق يأتى الخير، ومن تجارب الكثيرين، أقول لك: إن الإكثار من الدعاء فى حالات الضيق كنز عظيم, فالله يحب العبد اللحوح فى الدعاء, فبه يُرفع البلاء, وتنفرج الأزمات وتهون الآلام .  

ولابد من القناعة بأن السعادة لا تكون بعلو الجاه ولا كثرة المال, ولكنها هى سعادة القلب, ولن يسعد القلب إلا بالإيمان, والعمل الصالح, واللجوء إلى الله, والتوكل عليه, والإخلاص له, فذلك طريق السعداء ودربهم، فكن على يقين من أن الله معك، وأسأل الله أن يمن عليك وعلى أختك بالشفاء، وأن تعم السعادة والطمأنينة عليكم، وهو على كل شىء قدير.  

رابط دائم: 
اضف تعليقك
البريد الالكترونى
الاسم
عنوان التعليق
التعليق