على مر التاريخ ظلت السبحة رمزا دينيا فى مختلف الأديان، وإن تعددت أشكالها وعدد حباتها وطرق استخدامها، وفى العصور القديمة كانت رمزا لتعاويذ طرد الأرواح الشريرة، والحماية من الحسد. رحلة طويلة قطعتها السبحة عبر التاريخ والقارات. نتتبع جزءًا منها هنا.
كانت البداية من الهند. ففى كتابه «مساهمة الهند فى قضاء مآرب الإنسان الاقتصادية»؛ يكتب أحمد الحسينى «لما كان التدين من طبع الإنسان، احتاج إلى معرفة طريق صحيح لعبادة ذلك الخالق وذكره، فقدمت إليه الأديان المختلفة لذلك طرقا شتى، وساهمت الهند فى قضاء ذلك بتقديم طريق خاص لإحصاء الذكر، بواسطة عقد الحبات «السبحاة»، فإحصاء الذكر بالسبحة من اختراع الهند، اخترعه الدين البرهمى فيها ومنها تسرب إلى بلاد وأديان أخرى»، وهو ما يؤكده بكر ابن عبدالله أبو زيد فى كتابه «السبحة»: تاريخها وحكمها» بأنها دخيلة على العرب ويعود تاريخها إلى عام 800 م، حيث كانت وسيلة التعبد لدى البوذيين، الذين كانوا أول من استعملها فى محاولتهم لربط صلواتهم اللفظية بالفعلية، ثم لدى البراهمة بالهند، ومنهم تسربت إلى المسيحية بالعصور الوسطى، ليستخدمها القسيسون والرهبان، وانتشرت بالقرنين الخامس عشر والسادس عشر، ومن الهند انتقلت إلى غرب آسيا.
لم يعرفها المسلمون عند ظهور الإسلام، ففى الأصل وكما هو منسوب للرسول صلى الله عليه وسلم، كان التسبيح باستخدام أصابع اليد، ثم تم التحول لعد الذكر بالحصى أو النوى، ثم عده منظوما فى خيط «السبحة» التى تسرب استعمالها لدى المسلمين بالنصف الثانى من القرن الهجرى، وأصبحت شعارا للطرق الصوفية والروافض.
وبسبب البدع والخرافات التى تمحورت حولها، تم تأليف العديد من الكتب عنها، لدحض تلك البدع وذكر تاريخها، ولعل أولها كان للسيوطى وكتابه «المنحة فى السبحة»، وتلميذه ابن طولون وكتابه «الملحة فيما ورد فى أصل السبحة»، و«نزهة الفكر فى سبحة الذكر» للشيخ عبدالحى اللكنوى. ولكن معظم تلك الكتب لم يلتفت إلى تاريخ السبحة فى الديانات الأخرى، أو كيف تسربت إلى المسلمين عن طريق الروافض ودراويش المتصوفة، وهو ما أشار إليه أبو زيد فى كتابه.
وتعد السبحة رمزا كبيرا لدى الصوفية، يولونها اهتمامًا كبيرًا بحسب البنانى محمد بن عبدالسلام بن حمدون الفارسى، فى كتابه «تحفة أهل الفتوحات والأذواق فى اتخاذ السبحة وجعلها فى الأعناق»، ويوضح فيه كيف شرع الصوفية تعليق السبحة بالعنق، بدلا من إبقائها باليد، لأن من وجهة نظرهم أن العنق محل الطهارة بخلاف اليد، ولأن تعليقها بالعنق كان تعظيما وتوقيرا لها لقربها من حبل الوريد، الذى هو مجرى الحياة فى الجسد، بالتوازى مع قوله تعالى «ونحن أقرب إليه من حبل الوريد»، فيكون حبل الوريد وسيلة للقرب من الله، وهو آلة لحمل السبحة التى يستخدمها حاملها للتقرب إلى الله بذكره.
وأن بعض الأولياء من أقطاب الصوفية كانوا يعلقونها فى سقف خلوتهم تعظيما لها، وتحفظا عليها لكونها آلة يستعان بها فى الجهاد الأكبر، بل كان يتم استخدامها وهى معلقة، وجعلوا لها جرارة ليسهل دورانها، كما قال بعضهم «لو أمكننا التسبيح بالجبال لفعلنا» أى بأن يجعل حبة السبحة مقدار الجبل. ومن الصوفية تسربت البدع، مثل توارث سبح الصالحين والتبرك بها، والاحتفاظ بها والاعتقاد بفضلها، كما صارت عند البعض مظهرا للرياء، وإظهار التعبدوالتدين الظاهرى.
ولعل أشهر الحكايات التى تتوارد عن السبحة فى هذا السياق، حكاية سبحة القطب الصوفى العارف بالله السيد البدوى، المحفوظة بمسجده والتى أحاطت بها العديد من الخرافات، ويحرص المريدون على الذهاب للضريح للتبرك بها. ويذكر حسين الطيب فى كتابه «أسرار آل البيت»، أن البدوى صنع مسبحته من خشب العود والصندل الذى كان موجودا على جبل أبى قبيس، الذى كان يتعبدفيه الرسول صلى الله عليه وسلم، وبها 1999 حبة مختلفة فى الحجم والشكل، وعلى كل حبة اسم من أسماء الله الحسنى، ولم يكرر الاسم على حبة أخرى، مما جعل مسبحته أطول سبحة فى تاريخ الإسلام، حيث قارب طولها التسعة أمتار، فكانت تتدلى من أعلى سطح المسجد، وهو يسبح عليها طوال الليل والنهار.
ويختلف عدد حبات السبحة من ديانة لأخرى، ففى البرهمية عددها 84 حبة، وفى البوذية 108 حبات، وفى اليهودية تتكون من 45 حبة، وفى المسيحية هناك أنواع عدة، حيث تذكر الموسوعة العربية العالمية، أن المسبحة التى يستعملها الكاثوليك تتكون من 50 حبة صغيرة، بالإضافة إلى السبحة ذات 45 حبة التى تماثل عدد أيام الصيام الصغير، وفى أحيان أخرى تصل إلى 55 حبة بعدد أيام الصيام الكبير، أو 33 حبة بعدد سنوات السيد المسيح، أو 99 حبة وتستخدم فى صلوات الجمعة العظيمة. بينما اختار المسلمون لها مائة حبة، ليتمكنوا من حساب التسبيح والتكبير والتحميد خلف كل صلاة مائة مرة إجمالا، كما أوصى الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، وأحيانا يكون عدد حباتها 66 أو 33 حبة أو 99 حبة بعدد أسماء الله الحسنى.
على مر التاريخ وبحسب تطورها، صنعت حبات السبحة من مواد مختلفة مثل: الطين، الحصى، النوى، المعدن، عظام الحيوانات، الأخشاب، العاج، الزجاج، الذهب، الفضة، العنبر، وغيرها، بالإضافة إلى الأحجار الكريمة. وتذكر كتب التاريخ أن مدينة البندقية عرفت بصناعة المسابح من الزجاج الملون، والصين بصناعة سبح العاج، وأوروبا بمسابح الكهرمان الأسود. تتحكم مصر وتركيا والصين بأسواق السبح فى العالم، وتعد الأسواق المصرية الأكثر رواجا واستهلاكا للسبح، وتنافسها السعودية ودول الخليج، وينافسها فى التصنيع تركيا.
ويكتسب الشكل الدائرى لحبات السبحة أهمية خاصة لدى الصوفية، لأن الدائرة هى الرمز الأساسى لوحدة الكون وكماله، كما اكتشف العلماء أن جميع الأشكال المنتظمة تعتمد على جسم كروى. ولعب ذلك المفهوم دورا أساسيا فى تكريس أهمية السبحة ذات الحبات الدائرية بالثقافة الإسلامية الشعبية.
ثم أخيرا تطور شكل السبحة، وأصبح هناك برمجيات بالهواتف المحمولة للتسبيح، كما انتشر «خاتم التسبيح الرقمى».
ولكن مازالت السبحة التقليدية فنا وصناعة مزدهرة، ورمزا دينيا عابرا للأديان.
رابط دائم: