أثير فى الآونة الأخيرة مشكلة الزيادة السكانية كعقبة فى تحسين عوائد التنمية ووصولها إلى مختلف شرائح المجتمع. فقد يتم النمو فى الناتج والدخل القومى الإجمالي، لكن الزيادة السكانية قد تلتهم هذا النمو، بل قد تحوله إلى ناتج سالب إذا كان معدل الزيادة السكانية يفوق معدل النمو فى الناتج القومى الإجمالي. يتحقق ويتأكد هذا إذا كان النمو السكانى لا يقابله زيادة فى إنتاجية العنصر البشري، نتاجا لتراجع التعليم والتدريب وجودة العنصر البشرى عامة. ويتحقق هذا أيضا إذا تراجعت عدالة توزيع عوائد الإنتاج والدخل القومي، رغم ارتفاع معدل نمو الناتج القومي. ولا يشير معدل النموالاقتصادى (متوسط الزيادة فى الناتج القومى منسوبة إلى عدد السكان) بالضرورة إلى هذه الاختلالات، لأنه رقم إجمالى لا يتضمن توزيع الدخل، ولا مؤشرات نسب الفقر. فقد يزيد معدل النمو وتزيد معها نسب الفقر، إذا اقترن النمو الاقتصادى بتدهور فى أوضاع الفقراء أو باتساع قاعدة الفقر، نتاجا لزيادة اختلال عدالة التوزيع. وقد شهدت مصر قرب نهاية العقد الأول من الألفية الثالثة وصول معدل النموإلى 6% و 7%، لكن هذا النمو استفاد منه حفنة قليلة وازدادت دخولها وثرواتها ولم تشعر به القاعدة العريضة من المجتمع. وكانت هذه مقدمة وأحد أسباب ما حدث فى ثورة 25 يناير 2011. التنمية الحقيقية ينبغى أن تستهدف المناطق والطبقات والشرائح الأفقر والأدنى فى المجتمع. ودون هذا يمكن لهذه المناطق والفئات أن تشد المجتمع بأكمله ليس اقتصاديا فحسب، وإنما اجتماعيا وسلوكيا وثقافيا وعقائديا إلى أوضاعها المتدنية فى هذه الجوانب. حدث هذا فى مصر وشواهده عديدة. خذ مثلا المناطق العشوائية التى نشأت أصلا فى الريف من خلال البناء على الأراضى الزراعية، ومن خلال هجرة فقراء الريف إلى المدن وإنشائهم مناطق عشوائية حولها وفى داخلها. حدث هذا نتاجا لإهمال التنمية فى المناطق الريفية، وإهمال مدها بالمرافق والخدمات والاستثمارات وكذلك بالبرامج التى ترفع من الوعى وتنهض بالثقافة المجتمعية فيه. وفى ظل هذا أصبحت هذه المناطق فى الريف والمدينة هدفا سهلا للتيارات الدينية المتطرفة المخربة للوعى والثقافة المجتمعية. أو خذ مثلا ظاهرة الهجرة الخارجية. فقد شهدت مصر كذلك خلال العقود الأربعة الأخيرة نزوحا هائلا إلى دول الخليج سعيا إلى تحسين الأوضاع الاقتصادية لشرائح الطبقة المتوسطة والفقيرة، وهربا من وطأة الارتفاع الجنونى فى الأسعار، خاصة أسعار السكن والتعليم والمعيشة التى جاءت كتوابع لسياسات الانفتاح الاقتصادي. وجاء العائدون ليس كما ذهبوا، وإنما تزودوا بمفاهيم وقيم وسلوكيات (استهلاكية وليست إنتاجية). ومن المهم، لكى تصل التنمية إلى المناطق والطبقات والشرائح الأدنى المستحقة، أن تكون السياسات التنموية هادفة لتحسين جودة حياة ومواصفات البشر فى هذه المناطق والطبقات، وأن يوقف التيار التصاعدى فى الزيادة السكانية التى تأكل ثمار التنمية أولا بأول. ويتطلب هذا تحليل واستهداف العوامل الجذرية لهذه الجوانب. ويقع الفقر وانخفاض ورداءة التعليم والخدمات الصحية وتشوه الوعى والعقائد فى قلب العوامل الجذرية للزيادة السكانية. ويظهر تحليل معدلات حجم الأسرة أن الحجم الكبير الناتج من زيادة عدد الأبناء يزيد فى المناطق والطبقات الفقيرة وهو أعلى فى الريف عنه فى المدينة. وهناك علاقة عكسية بين مستوى (وجودة) التعليم وبين عدد الأبناء فى الأسرة. وتشير الدراسات أيضا إلى أن زيادة عدد الأبناء يزداد بين شرائح المجتمع التى تأثرت بالتيارات الدينية المتعصبة والمتشددة والتى تحمل قيما وثقافة قدرية وغيبية عالية. ويعتبر غياب إستراتيجية للإصلاح الثقافى والقيمى للمجتمع عامة خاصة المناطق والطبقات الفقيرة والريفية فيه أحد عوامل زيادة معدلات المواليد وارتفاع حجم الأسرة فيها. جوهر التنمية يقع فى رأس المال الإنسانى (باعتباره غاية ووسيلة معا)، وكيفية تنميته والاستفادة منه، وكذلك تحقيق رفاهيته وحصوله على نصيب عادل من عوائد الإنتاج (اى من الناتج أو الدخل القومي). والزيادة السكانية إذا اقترنت بزيادة الاستثمار فى رأس المال الإنسانى من خلال خدمات الصحة والتعليم والتدريب ليس الجيد فحسب، وإنما فائق الجودة، وإذا اقترنت بإصلاح قيمى وثقافى وتنمية لوعى المجتمع، واهتمام فائق بتأهيل وتعليم وصحة وتنمية ثقافة ووعى المرأة (باعتبارها الحاضنة الاجتماعية والوجدانية والقيمية للأسرة وللأبناء)، يمكن أن تكون رافعة للتنمية، وليس عبئا عليها. وقد تم إهمال رأس المال الإنسانى خلال عقود عديدة، فوصل المجتمع إلى حاله الراهن. ولن يكون لهذا آثار إيجابية على التنمية التضمينية أى العادلة، إلا بإعادة النظر فى نظم إدارة رأس المال الإنسانى وضمنها هياكل ونظم الأجور فى قطاع الدولة وفى القطاع الخاص. فهذه النظم والهياكل تعتبر فضلا عن عدم فعاليتها وعدم عدالتها، غير محفزة على تحسين الأداء والإنتاجية. والاهتمام برأس المال الإنساني، يحدث بتعليم فائق الجودة وخدمات صحية جيدة متاحة للجميع وإحياء الدور التربوى للمؤسسات التعليمية وجعلها مصدرا للقيم القائمة على التسامح والنزاهة والسلوكيات المنضبطة الحميدة ولبناء المواطنة والايمان بالعلم وإحياء وتأكيد دور العقل. هذا مع إعطاء اهتمام فائق لتعليم وبناء وعى المرأة، وينبغى أن تشمل هذه الثورة الإصلاحية القضاء على الفساد الذى تغلغل وتفشى فيه على كل المستويات فقضى على مضامينه وجودته وتوابعه القيمية والأخلاقية ودمر بذلك رأس المال الإنساني.
مصر الآن فى سباق تنموى جديد، يقوم على التفوق فى جودة وكفاءة ما تخرجه قطاعات الإنتاج وفى التفعيل والتطبيق الاقتصادى للابتكارات واستخدام تطبيقات الثورة الصناعية الرابعة والتقنيات الرقمية الجديدة. وهذا التفوق لكى يتحقق، يحتاج المجتمع والدولة إلى إعادة نظر شاملة فى إستراتيجية التنمية وسياساتها وآلياتها المؤسسية. ويقع فى قلب هذا كيف يتم تحويل القطاعات والعوامل والقوى التى أعاقت التنمية لعقود إلى قوى إيجابية فاعلة ودور رأس المال الإنسانى وعائده من كل هذا.
لمزيد من مقالات د. أحمد صقر عاشور رابط دائم: