لم تختلف استراتيجية الأمن القومى الأمريكى التى أصدرتها إدارة بايدن مؤخرا, كثيرا فى أهدافها وأولوياتها عن إستراتيجية إدارة ترامب, خاصة فيما يتعلق بالتعامل مع إيران حيث اعتبرت إدارة بايدن أن إيران, إلى جانب كوريا الشمالية, تمثل تهديدا للمصالح الأمريكية فى المنطقة وأنه لابد من التعاون مع الشركاء الإقليميين لمواجهة السلوك العدوانى الإيرانى سواء المباشر أو عبر أذرعها العسكرية الإرهابية فى المنطقة, وهو ما يعكس إدراك إدارة بايدن أن السلوك الإيرانى هو المزعزع للاستقرار فى الشرق الأوسط عبر مساعى إيران لامتلاك السلاح النووى والتراجع عن التزاماتها فى الاتفاق النووى الذى تم توقيعه عام 2015 من حيث زيادة نسبة تخصيب اليورانيوم إلى أكثر من 20%, كذلك تشغيل أجهزة طرد مركزى حديثة من نوع آى آر 2 قادرة على زيادة التخصيب, وإعادة تشغيل المواقع النووية فى نطانز وغيرها, إضافة إلى الانسحاب من البروتوكول الإضافى لمعاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية بما يعنى منع مفتشى الوكالة الدولية للطاقة الذرية من التفتيش المفاجئ على المواقع النووية الإيرانية. كذلك السلوك الإيرانى المرتبط بتطوير برنامج الصواريخ الباليستية والتى زودت به أذرعها الإرهابية خاصة ميليشيا الحوثى الانقلابية فى اليمن والتى استخدمتها فى تهديد أمن المملكة العربية السعودية واستهداف الأهداف المدنية من المطارات والمنشآت النفطية وغيرها, تضاف إلى ذلك انتهاكات إيران لحقوق الإنسان, ودعم الإرهاب فى المنطقة عبر أذرعها العسكرية فى اليمن والعراق وسوريا ولبنان. وبالتالى وضع إيران فى إستراتيجية بايدن هو وضعها نفسه فى إستراتيجية الأمن القومى لإدارة ترامب والذى اعتبر أن إيران دولة مارقة وتمثل تهديدا مباشرا لمصالح الولايات المتحدة وحلفائها فى المنطقة.
لكن الاختلاف بين الإدارتين هو فى آليات التطبيق, فبالنسبة لإدارة ترامب اعتمدت الآليات الصلبة للتعامل مع الخطر الإيرانى فى الملفات الأربعة السابقة, انطلاقا من فلسفة تعزيز السلام من خلال القوة, وذلك عبر الانسحاب من الاتفاق النووى الإيرانى وتبنى إستراتيجية أقصى الضغوط من خلال سلسلة من العقوبات طالت كل أوجه الاقتصاد الإيراني, كذلك الاعتماد على التعاون مع الشركاء الإقليميين خاصة دول الخليج وعلى رأسها السعودية لاحتواء ومواجهة الخطر الإيرانى, بينما أعطت إدارة بايدن الآليات الناعمة أى الدبلوماسية, الأولوية فى التعامل مع الخطر الإيراني, وأن الخيار العسكرى سيكون الخيار الأخير, لكنها لم تستبعد اللجوء إلى استخدام القوة العسكرية المحدودة للرد على أى هجوم إيرانى وشيك كما حدث فى استهداف عناصر تابعة للحرس الثورى الإيرانى فى سوريا ردا على استهداف القوات الأمريكية فى العراق.
لكن استراتيجية إدارة بايدن فى ردع إيران تواجه عددا من الإشكاليات والتناقضات, أولا: يتفق بايدن مع ترامب فى منع إيران من امتلاك السلاح النووى, لكن بايدن يعتبر أن الدبلوماسية هى السبيل لتحقيق ذلك وأعلن العودة المشروطة للاتفاق النووي, لكن المشكلة أن الدبلوماسية الهادئة من جانب إدارة بايدن تعطى رسائل سلبية لإيران بالاستمرار فى المراوغة فى المفاوضات بينما تقوم على أرض الواقع بتسريع خطوات تخصيب اليورانيوم ومن ثم زيادة قدراتها فى المجال النووى العسكري, كما ان الدبلوماسية لن تجدى مع أذرع إيران فى المنطقة فهؤلاء ميليشيات مسلحة يصعب التفاوض معهم مباشرة, وإنما عبر التفاوض مع إيران وهى لن تضحى بهذه الأذرع التى تستخدمها فى تعظيم نفوذها وتنفيذ أجندتها فى المنطقة. وبالتالى فإن استراتيجية بايدن المزج بين إستراتيجيتى أوباما وترامب, أى الجمع بين الجزرة (الحوار والمفاوضات), والعصا ( استمرار العقوبات الاقتصادية), تبدو غير قادرة على احتواء الخطر النووى الإيرانى وكذلك الملفات الأخري, حيث يسعى النظام الإيرانى إلى استخدام عمليات التخصيب, إلى جانب أذرعه فى مهاجمة القوات الأمريكية فى العراق, كأوراق ضغط على الولايات المتحدة لدفعها نحو رفع العقوبات والعودة إلى الاتفاق, كما أنه قد يتجه نحو امتلاك السلاح النووى واستخدامه كورقة للضغط على أمريكا والمجتمع الدولى كما فعلت كوريا الشمالية.
وثانيا: فى الوقت الذى لم تستبعد فيه إدارة بايدن استخدام القوة العسكرية لردع إيران, إلا أنها فى ذات الوقت وضعت قيودا شديدة على استخدام القوة, منها قرار بايدن بحظر استخدام الطائرات المسيرة خارج نطاق مناطق الصراع فى أفغانستان والعراق, مما يقيد المؤسسة العسكرية الأمريكية فى التعامل مع التهديدات الإيرانية فى المناطق الأخرى مثل اليمن وسوريا ولبنان وغيرها. كذلك فإن مساعى الكونجرس الأمريكى لاستصدار تشريع لإلغاء تفويض الرؤساء الأمريكيين بإعلان الحرب واستخدام القوة العسكرية, الذى تم منحه فى أعوام 2001 و2002 للحرب ضد أفغانستان والعراق, يحد من قدرة إدارة بايدن فى التعامل مع التهديدات الإيرانية فى الشرق الأوسط سواء ضد المصالح الأمريكية أو ضد مصالح حلفائها فى الشرق الأوسط. وثالثا: إن غياب رؤية واضحة واستراتيجية متكاملة من جانب إدارة بايدن للتعامل مع الخطر الإيرانى يعطى رسالة سلبية للحلفاء فى المنطقة, ويزيد من الخطر الإيرانى وليس احتواءه, خاصة فى ظل تركيز إدارة بايدن على منطقة آسيا والتعامل مع الخطر الصينى كأولوية على حساب الشرق الأوسط والتهديدات الإيرانية.
لمزيد من مقالات د. أحمد سيد أحمد رابط دائم: