عندما نحتفل بيوم الشهيد، ونستعيد ذكرى تضحياتهم الغالية، فإن دماءهم الذكية تتحول إلى مصابيح تضيء لنا الطريق نحو المستقبل، إنه الطريق الطويل المليء بالبذل والعطاء من أجل الوطن والشعب، حتى يتبوأ المكانة التى حلموا بها وضحوا من أجلها.
إن الشهيد الفريق أول عبدالمنعم رياض كان نموذجا للعسكرية المصرية، وكل شعب مصر، وتولى قيادة الأركان عقب هزيمة يونيو 1967، وشارك فى إعادة بناء الجيش المصرى على أسس من العلم والوعى الإستراتيجى والموضوعية الشديدة، فهو يتعرف على الإمكانات المتوافرة بكل دقة، ويسعى إلى توظيفها بشكل فعال، دون مبالغة فى المزايا، ودراسة سبل تدارك السلبيات والنواقص، وكان يعرف قدر الخصم ولا يتجاهل أوجه تميزه، وهذه العقلية العلمية التى جمعت بين البذل والعطاء والتضحية والعلم هى ما كنا فى أشد الحاجة إليها عند إعادة بناء الجيش المصري، فكان الجنرال الذهبى فى طليعة القوات المقاتلة، واستشهد وهو يقف على شاطئ القناة على بعد عشرات الأمتار من ثكنات العدو، كان يتفقد خنادق الجنود ويتعرف عليهم عن قرب، ويشاركهم طعامهم، ويتحدث معهم فى كل الأمور، ولهذا كان من النماذج التى يفخر بها الجيش المصرى الذى لم يتوقف عن العطاء وتقديم قوافل الشهداء فى كل المعارك التى كان يذود فيها عن الشعب والوطن، ويسعى إلى النصر من أجل حياة أفضل، وينقذ الوطن من العدوان ويذود عن ترابه.
قاد الشهيد عبدالمنعم رياض عدة معارك خلال حرب الاستنزاف، وحققت قواتنا انتصارات لافتة فى وقت قصير، لتؤكد أن مصر قادرة على النهوض سريعا من كبوتها، ويمكنها أن تحقق النصر، وكان بناء حائط الصواريخ المضادة للطائرات من أهم الإنجازات التى تحققت فى حرب الاستنزاف، ولولاها ما انتصرنا فى حرب أكتوبر، وكان بناء حائط الصواريخ وإعادة بناء الجيش على أسس علمية متقدمة أهم بشائر النصر، ونستحضر الآن هذه الروح والعقلية الإستراتيجية فى بناء الجمهورية الثانية، التى تستكمل تحقيق أحلام شهدائنا فى مصر القوية والحديثة على أسس من العلم والتضحية والبناء، ويتجلى هذا الحلم الكبير والعظيم فى المشروع الاستثنائى والإستراتيجى الذى بدأ منذ سنوات ببناء سلسلة من المدن الحديثة، من أسوان جنوبا حتى العلمين شمالا، ومن سيناء والمدن الجديدة على القناة حتى أقصى الغرب، وفى القلب منها العاصمة الإدارية التى ستكون نموذجا يحتذى ليس فقط فى مبانيها وطرزها المعمارية وشوارعها وبنيتها الأساسية وحدائقها ومدارسها ومساجدها وكنائسها، وإنما لأنها ستكون مركز إشعاع حضاريا وعلميا يقوم على الرقمنة والدراسات المستندة إلى معلومات دقيقة وشاملة، بكوادر فنية من شبابنا الذى سيقدم نموذج الإدارة الحديثة والتنمية الشاملة.
لم يكن بالإمكان الاستمرار فى الحلول الجزئية، وليس معنى أن نقيم شبكة من المدن الحديثة أن نهدم القديمة، بل كان المشروع الحضارى الكبير والمبهر يقوم على أساس أن تكون المدن الجديدة قاطرات لتنمية مصر بأكملها، بمدنها القديمة وريفها، وهنا لابد من التوقف عند مشروع إعادة بناء الريف المصري، ذلك المشروع الذى سيكون الرافعة الأكبر والأهم، التى تشمل تنمية مناطق تضم 58 مليون مصرى فى الريف، عانوا طويلا من الإهمال، وتفشت فى القرى عادات ومشكلات تراكمت حتى بات من الصعب تجاهلها أو السكوت عنها، فعدد السكان يزداد بمعدلات كبيرة، وهذا العدد الكبير يزحف على الأرض التى تطعمه وتطعم باقى سكان المدن، فتقل الأراضي، وبالتالى ينخفض الإنتاج، ليزداد الفقر، ومع الفقر تظهر أعراض خطيرة فى السلوك والعادات والقيم ومستوى الخدمات، وبالتالى تفاقمت مشكلات الريف المصرى وزحفت على المدن لتصيبها بأعراض مماثلة من قبح المبانى والتعدى على الملكيات وعدم الالتزام بالتنظيم، ولهذا كان مشروع تنمية الريف من أضخم المشروعات فى تاريخ مصر، ليس من حيث كلفته العالية فقط، ولكن لأنه سيغير وجه الريف المصري، ويوقف تلك الظواهر السلبية التى اعتدنا عليها طويلا، وليحل محلها أسلوب العلاج العلمى المدروس، ولهذا نستحضر أرواح شهدائنا وأحلامهم لتلهمنا القدوة والنموذج والروح العالية فى البذل والعطاء من أجل تحقيق حلم التنمية الشاملة، التى يكون الإنسان حجر الزاوية فيها، ومعيار التقدم الحقيقي، لكن تلك التنمية فى حاجة إلى بنية أساسية، إلى شبكة طرق ومبان وخدمات ومياه وكهرباء وسكك حديدية حديثة وغيرها من المرافق التى تتناسب مع عصرنا.
إن الرئيس السيسى اختار الطريق الصعب، لكنه الطريق الوحيد نحو المستقبل الذى لا يخلو من الصعوبات والمشاق، فالتكلفة عالية فعلا، لكنها ضرورية من أجل الخروج من الوادى الضيق، وخلق مجتمعات عمرانية حديثة، لن تظهر نتائجها فى يوم وليلة أو بضع سنوات قليلة، فقد اعتدنا أن نرى ذلك الواقع البائس والمهمل لعقود طويلة، وكففنا عن الحلم بتجاوز هذا الواقع، واعتبرناه كأنه قدر لا يمكن تغييره، بل وصل الحال بالبعض إلى التغنى بهذه الأوضاع التى اعتدنا عليها، فهناك المتفائلون الذين يرون أن توسعة طريق شيء ضرورى وإيجابي، ويوفر الوقت والجهد، وهناك من لا يرون فى شق الطريق أو توسعته إلا الآثار الجانبية مثل هدم مبنى أو إزالة بعض التعديات أو منح تعويضات لمن تضرروا، وأن بناء كوبرى قد غير من الخريطة التى اعتادوها، وأقرأ وأتابع تلك الآراء المتشائمة التى لا ترى سوى العقبات وتجتر السلبيات، ولا تستطيع عقولها أن تخرج إلى أفق أوسع يرى صورة المستقبل ويتجاوز تلك التشوهات التى ملأت مدننا القديمة والريف المكتظ بالمشكلات، والهجوم الكاسح على الأراضى الزراعية، وتجريف تربته الخصبة واستخدامها فى صناعة الطوب، من أجل المزيد من التعدى والتخريب الذى فرضته تلك الزيادة السكانية وعدم الخروج من عنق الوادى الضيق إلى أفق الصحراء الرحبة، وتحويلها إلى مصانع ومزارع ومبان حديثة وجميلة، ترتقى بأذواقنا، وتوفر مناخا مناسبا للاستثمار والإنتاج، فلا مصانع ولا مزارع بدون شبكة طرق وسكك حديدية متطورة، ومبان حضارية، وشبكات اتصالات ومعلومات وإدارة جيدة ومتطورة .
هذا هو الحلم الصعب الذى يتحول إلى حقيقة، نراها الآن تبزغ وسط الصحراء التى سالت فيها دماء الشهداء من أجل حرية وكرامة هذا الوطن وهذا الشعب الذى يستحق الحياة الكريمة.
لمزيد من مقالات بقلم ــ عـــلاء ثابت رابط دائم: