جاء توقيع اتفاقية التعاون العسكرى بين مصر والسودان الثلاثاء الماضى فى الخرطوم ليدشن مرحلة جديدة فى تطوير العلاقات الإستراتيجية بين البلدين الشقيقين فى توقيت بالغ الأهمية، فالأوضاع الإقليمية والدولية يحيط بها العديد من المخاطر والأزمات الممتدة من ليبيا إلى إثيوبيا والصومال واليمن ومنطقة الخليج وسوريا والعراق ولبنان إلى أفغانستان ومعظم آسيا الوسطى، كما تشهد القارة الإفريقية نشاطا ملحوظا للجماعات الإرهابية فى منطقة الساحل والصحراء ونيجيريا والكونغو، وتفرض هذه التحديات أن نكون على درجة كبيرة من اليقظة والتأهب، وأن تمتد أيادى الأشقاء لتتشابك معا فى مواجهة أى مخاطر. وتتميز العلاقة بين الأشقاء فى مصر والسودان بعمق تاريخى وعلاقات متداخلة صهرت الشعبين منذ آلاف السنين.
ويعد نهر النيل رابط حياة جمعت الشعبين حول ذلك الشريان الحيوي، والذى لا يمكن ترك أمر جريان مائه دون مراعاة حقوق الشعبين فى مصر والسودان، ولهذا كان التنسيق بين البلدين حول خطوات إنشاء سد النهضة، ووجود ضمانات بعدم إلحاق أى ضرر بالدولتين، وهناك تفاهم على أن الفائدة يجب أن تعم الجميع، وليس لمصلحة طرف على باقى الأطراف، فمصر والسودان لا تمانعان فى استفادة إثيوبيا من توليد الكهرباء بما يفيد التنمية فيها، لكن فى المقابل يجب أن تراعى الحكومة الإثيوبية حقوق ومصالح وحياة الشعبين، كما أن لمصر والسودان مصالح مشتركة ومواقف مبدئية حول حماية حدود البلدين وسيادة كل منهما على أراضيها، ومنع أى اعتداء عليها.
كل هذه التحديات كانت دافعا لاتخاذ المزيد من خطوات التعاون والتكامل بين البلدين الشقيقين، الذى يمتد من التعاون العسكرى والأمنى إلى مجالات أخرى كثيرة، بعضها يجرى إنجازه بالفعل، فقد جرى التوقيع على اتفاقيات كفيلة بزيادة مجالات التعاون والتبادل التجاري، منها تطوير النقل النهرى وربط خطوط السكك الحديدية، وشق طرق برية جديدة، تصل مصر بتشاد عبر السودان، وطريق آخر يصل شمال القارة الإفريقية بجنوبها ويمتد من القاهرة إلى الخرطوم وحتى جنوب إفريقيا، والذى يعد من أهم مشروعات النقل فى القارة، ومن شأنه أن يزيد من التعاون الاقتصادى والتقارب بين الشعوب، وزيادة التبادل التجارى والمشروعات المشتركة.
إن التعاون العسكرى والأمنى بين مصر والسودان من شأنه أن يردع أى أطماع يمكن أن تهدد أيا من الشعبين، وهذا التعاون ليس موجها ضد أحد، لكن الأمن والاستقرار فى حاجة إلى قوة تحميه، لمنع أى اعتداء على مقدرات وثروات وأراضى البلدين الشقيقين، فالبلدان لا يسعيان إلا لحماية حقوقهما وأراضيهما وعدم التعدى على تلك الحقوق، واتفاقية التعاون من شأنها أن تقوى القدرة على الردع وحماية الاستقرار والتنمية، وهى خطوة استباقية تمنع أى اعتداء، وتردع أى متربص، وتقدم نموذجا للعلاقات الأخوية والصحيحة، المستندة إلى الحق والقوانين الدولية، خاصة فى فترات الاضطرابات والتوتر والحروب، فالتنسيق والتعاون بين الأشقاء يجعل المنطقة أكثر أمنا، ويفتح المجال أمام انضمام المزيد من الدول الشقيقة والصديقة لوضع التنمية والمصالح المتبادلة والتعاون فى مقدمة اهتماماتها بدلا من تغليب المصلحة الفردية على حساب الآخرين، والذى يجر إلى الصراعات والحروب والخسائر.
لاحظت تسارع وتيرة الزيارات المكوكية بين القاهرة والخرطوم، والتى شملت مختلف جوانب التعاون الثنائي، من التنسيق فى السياسة الخارجية حول مختلف القضايا الساخنة فى المنطقة، لتكون مصر والسودان صوتا للسلام والأمن والحد من التدخلات الخارجية التى تزيد تعقيد المشكلات، وكانت تصريحات وزارة الخارجية المصرية واضحة وحاسمة فى ضرورة منع أى اعتداء على أراضى أى دولة عربية واحترام سيادتها على أراضيها، سواء فى العراق أوسوريا أو السودان وباقى الدول العربية، وهى رسالة يجب أن تكون واضحة وأن تكون هدفا موحدا لكل دول المنطقة، للحد من التدخلات الإقليمية والدولية التى عانت منها شعوب المنطقة فى السنوات الأخيرة، وكانت نتائجها وبالا على شعوب المنطقة، وأهدرت الدماء والثروات ونشرت الدمار، ولهذا فإن التعاون المصرى السودانى وضع فى مقدمة أولوياته الوقوف بحزم أمام أى أطماع، وعدم جر المنطقة إلى الصراعات والحروب، وأفضل الطرق لتحقيق هذا الهدف هو تعزيز التعاون العسكرى والأمنى والاقتصادي، فلا تنمية إلا فى ظل الأمن، ومنع التدخلات الخارجية التى تبث الفتنة والفرقة حتى تحقق أهدافها التوسعية على حساب الحقوق العربية.

لقد عاشت المنطقة حقبة طويلة ومريرة من النزاعات والحروب، شملت معظم دول المنطقة، ووجد الإرهاب أرضا خصبة ليعيث فسادا ودمارا، فهناك من يغذى ويحتضن ويمول جماعات الإرهاب، لإشاعة أجواء من الفوضى، وإضعاف دول المنطقة، واستنزاف قدراتها من خلال تلك الجماعات المخربة، وعلينا أن نعى دروس تلك الحقبة المؤلمة، وألا نسمح بأن تكون بلادنا ساحة للصراعات ومطمعا لكل من يريد التوسع على حساب شعوبنا، ويأتى التعاون الإستراتيجى بين مصر والسودان ليدشن مرحلة جديدة غير مسبوقة فى صالح كل شعوب المنطقة، ويضع أسسا جديدة تستند إلى إرادة سياسية قوية وجادة فى وضع حد لأى أطماع خارجية، وتكريس أسس عادلة فى العلاقات بين الدول، تحترم كل منها حقوق الأخرى، ويربح منها الجميع بدلا من تلك الحروب المدمرة والعبثية، والتى تعتقد فيها كل دولة أن بإمكانها أن تحقق مكاسب على حساب الآخرين، والإضرار بحقوقهم.
إن التعاون العسكرى والأمنى بين جيشى مصر والسودان سيشمل مجالات التدريب والتأهيل وتبادل الخبرات، فقوة الجيش السودانى إضافة لقوة الجيش المصري، مثلما قوة الجيش المصرى تعزز قوة السودان، وهذه العلاقة الوطيدة يجب أن تكون نموذجا يحتذى بين كل الدول العربية، ليكون أمنها بأيديها، وتوقف التدخلات الخارجية والأطماع، وتحظى بثقة واحترام دول العالم.
وأعتقد أن تلك الخطوة الإستراتيجية سيكون لها نتائجها المهمة، لتفرض على أى دولة متربصة أن تراجع نفسها، وأن تعود إلى طريق الصواب والتعاون والتفاهم، وألا تحاول أن تختبر قوة البلدين الشقيقين اللذين تجمعهما روابط الدم والصداقة والمصالح المشتركة، وقد أكدت كل من مصر والسودان انفتاحهما على التوصل إلى اتفاق حول سد النهضة يقوم على الاحترام المتبادل وتحقيق التنمية للجميع وضمان حقوق جميع الأطراف وفقا للقوانين الدولية والحقوق التاريخية والسعى المشترك لتطوير موارد نهر النيل ليكون مصدر خير ورخاء للجميع، والابتعاد عن المراوغة وكسب الوقت أو محاولة فرض أمر واقع يمس حقوق أى بلد، وضرورة إبداء حسن النية عمليا وليس بالقول والوعود فقط، وأن تتسم أى مباحثات بالشفافية والصدق وحسن النية والخطوات الجادة، والاحتكام إلى حل المشكلات الحدودية مع السودان وفقا للخرائط والاتفاقيات الدولية، وليس بطريقة فرض الأمر الواقع والتعدى على الأراضي، والمراوغة والتملص من القوانين والاتفاقيات الدولية، وهذا الاحترام لحقوق الآخرين هو ما يأتى بالسلام والرخاء والتنمية الحقيقية، أما الاحتكام إلى القوة، وعدم احترام حقوق الآخرين فلا يأتى إلا بالضغينة والكراهية والعنف والدمار.
الأمل مازال قائما فى وضع أسس قائمة على الاحترام وحسن النية وعدم التعدي، لأن طريق الأطماع والتعدى لا يؤدى إلا إلى الخسائر والدمار والتشريد والمآسي، وعلى كل دول المنطقة استيعاب الأحداث التى هزت الكثير من الدول، وأهدرت الكثير من الأرواح البريئة، ودمرت الثروات، ولم يخرج منها أى طرف بمكسب، فالكل خسر فى تلك الصراعات العبثية، وها هى مصر والسودان تؤسسان لعلاقة مبنية على المنفعة المتبادلة، وتستند إلى تأييد شعبى كبير، فالشعوب تصبو إلى الأمن والحياة الكريمة التى لا يمكن أن تتحقق فى ظل صراعات لا طائل من ورائها.
الطريق مفتوح أمام إثيوبيا من أجل التوصل إلى اتفاق ملزم حول برنامج زمنى ملائم لكل الأطراف بشأن ملء السد، تراعى فيه مصالح وحياة شعبى مصر والسودان، وألا يأخذها غرور القوة إلى طريق الإيذاء، الذى لا يفيد أى طرف، وأن تتجاوب مع مبادرات البلدين والدول الصديقة التى توسطت من أجل حل عادل، يراعى مصالح الجميع، ولكن الأهم هو أن تكون العلاقات المصرية السودانية نقطة انطلاق لعلاقات عربية متينة، تجعل من العرب قوة إقليمية ودولية تتمتع بالكثير من القوى لو أحسنت استغلال قدراتها، وتعاونت فيما بينها، وحلت مشكلاتها بنفسها بروح الأخوة والتعاون.
لمزيد من مقالات بقلم ــ عـــلاء ثابت رابط دائم: