تتعرض الأمم كما تواجه الشعوب نوبات من التغيير نتيجة المحن التى تعبرها والأزمات التى تمر بها، ومصر بلد صامد بطبيعته، صبور بفطرته، عريق بتاريخه، قوى بأبنائه لذلك فإن مصر واحدة من أفضل النماذج لنظرية العناد الوطنى والصمود الشعبي، ونحن نقف فى هذه السنوات على أعتاب مرحلة فاصلة من تاريخنا شهدنا خلالها تحولات جذرية وتغييرات هائلة تؤكد فى مجملها أن مصر تتغير وتأخذ منحى جديدًا تبدأ فيه عملية الإقلاع نحو مستقبل أفضل، خصوصًا وأن مصر بلد تعرض تاريخيًا لنوع من المقاومة كلما بدأ الإقلاع إلى أعلى حيث تشتد حوله الضغوط، وربما تحيط به المؤامرات، لذلك تعرضت الكنانة عبر تاريخها الطويل لكثير من المعوقات، وتكالبت عليها القوى، وتكاثرت حولها الأحقاد، ولكن هناك شيئًا ما يبدو سحريًا وغامضًا هو أن العناية الإلهية تأخذ بيدها عند اللزوم، تأكيدًا لمكانتها فى استقبال الأديان السماوية الثلاث واحترامًا لأعمدة حكمتها التى كتب عنها «ميلاد حنا»، فمصر بلد الوسطية والتوازن بين الأبعاد المختلفة بشخصيتها المتميزة، وإذا كانت مصر اليوم تقوم بعمل ضخم متعدد الجوانب فى وقت واحد فقد دفعت ببرنامج قوى للإصلاح الاقتصادى إلى جانب حرب يقظة ضد الإرهاب، وفى ذات الوقت تؤسس لبنية أساسية تحتية وفوقية لم يشهد تاريخ الحكومات المصرية مثيلًا لها من قبل، أقول إذا كانت مصر تفعل ذلك فإنها تؤكد مكانتها الحقيقية وحيوية دورها المتجدد عبر العصور، وإذا كان هناك من يرى أن الشعب يدفع ثمنًا من معاناته فإن ذلك لأنه يبنى وقريبًا سوف يجنى، ولا يمكن لدولة أن تتحدث عن السيادة والكرامة إذا قبلت أن تعيش على دعم الأشقاء ومعونات الأصدقاء، وها هى مصر تدرك أن لكل سلعة ثمنًا، وأن لكل خدمة مقابلًا، ولعل العظيم فى الشعب المصرى هو أن فئاته قد أدركت ذلك وتفهمت الأمر، وقبلت أن تدفع الثمن لبناء مصر القوية، ولعلى أطرح هنا النقاط التالية:
أولًا: إن أولئك الذين يتحدثون عن الاهتمام بالحجر دون البشر قد تكون نظرتهم صحيحة بالنسبة للوقت الراهن، إلا أن الاهتمام بالحجر مقدمة طبيعية لاحتواء البشر، ولن يبدع الإنسان دون مسكن مناسب وطريق معبد ووسائل انتقال متاحة، فآدمية المخلوق تتحدد بما يستطيع أن يحصل عليه من خدمات وما يتاح له من فرص، لذلك فإن العلاقة بين الاهتمام بالحجر واحترام البشر هى علاقة طردية، ولا يمكن أبدًا أن يكون أحدهما على حساب الآخر، ولا شك أن مصر مقدمة على انطلاقة صناعية قريبة تفتح مصادر لتمويل الاستثمار لا تكون بالضرورة على حساب ميزانية الأفراد والأسر.
ثانيًا: إن الاهتمام بالتعليم والصحة اللذين يتصدران اهتمام الدولة المصرية الحالية هما المكون الطبيعى للعقل المصرى الذى لا يمكن أن يكون متألقًا ومبدعًا دون الاهتمام به ذهنيًا وجسديًا، إننا بحاجة إلى تفكيك العقل القديم والتخلص من الرواسب والشوائب التى لحقت به عبر سنوات التخلف ومظاهر التطرف وفترات الاسترخاء دون مبرر، لذلك فإن الوعى يصنع من الإنسان نموذجًا يصلح للتعامل مع المستقبل والاندماج فى عصر يبدو كل ما فيه مختلفًا عن الماضى الذى عهدناه.
ثالثًا: إن مصر العربية الإفريقية البحر متوسطية الشرق أوسطية لابد أن تمارس دورًا على كل الجبهات، فمصر تتمتع بتعددية تتيح لها أن تمضى فى كل اتجاه وألا تقف مكتوفة عند واحد من الأبعاد التى تمتعت بها وأخذت منها، وسوف تظل مصر دولة ذات حيوية متجددة بحكم الآفاق التى تسبح فيها وتنتظم معها فى تألق دائم ورقى مستمر.
رابعًا: إن الذين يحاولون خنق مصر بالتحكم فى مياه النهر الخالد إنما يرتكبون جرمًا كبيرًا لن يتمكنوا من تحقيقه، فمصر عصية على كل محاولات إضعافها أو الإقلال من دورها أو الحط من شأنها، ولست أنا الذى يقول ذلك ولكن سياق التاريخ يؤكد هذه الحقيقة عبر العصور وفى مختلف الأزمنة، ولقد واجهت مصر تحديات أشد وأصعب فى مراحل مختلفة من عمرها الطويل الذى بدأ مع طفولة الإنسانية ولم ينقطع أبدًا، لذلك فإننى أزعم أن موضوع السد الإثيوبى لن يحقق الأهداف الخبيثة التى سعى إليها من يقفون وراءه ومن يمولونه، لأن مصر أكبر وأعظم من أن تنال منها مثل هذه المحاولات الحاقدة.
خامسًا: إن مصر دولة شامخة أمام المواقف الصعبة والتحديات المباشرة، يجتمع شعبها على كلمة سواء إذا شعر بتهديد خارجى حقيقى، كما أنه شعب صبور لا يثور إلا بعد نفاد كل المحاولات لإصلاح الحكم وترشيد السياسة، لذلك نقول عن مصر دائمًا إنها دولة عصية على السقوط تستطيع أن تمارس دورها فى ظل أقصى الظروف وأصعب المواقف، كما أنها قدمت للمجتمع الدولى المعاصر نماذج باهرة للدبلوماسية والقانون والطب، فضلًا عن دورها الرائد فى الآداب والفنون وقدرتها على تحويل آلامها إلى ابتسامات صبورة تواجه بها المحن وتتغلب معها على الصعاب.
إن مصر القادمة سوف تكون قوية كعهدنا بها، صامدة كشأنها دائمًا، وسطية كما عرفها كل من تعامل معها، أو مر بأرضها، أو نهل من علمها، أو درس آثارها.
لمزيد من مقالات د. مصطفى الفقى رابط دائم: