رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

... ولا يَفْهَم فى الكهرباء؟

يروى تاريخ السخرية المصرية المعاصر نكتةَ، تجسد الأحرف تفاصيل مشهدها فى زوج يجلس بقوامه الضخم وزيه الُمنَمَق، واضعًا ساقًا فوق أخرى، على باب المقهى البلدى فى حيه العتيق، تتشبث يدهٌ الطَرية الملمس بمبسم شيشته المنتصب، يُحرك رأس المبتسم يُمْنَة ويُسرى على أطراف شاربه المنحوت قدًا فوق شفتيه، والمفتول بدقة عند طرفيه، وتتحرك عيناه الثعلبيتان مُراقبةً كُل رائحة وغادية من بنات حواء، تتعلق نظراته بذواتِ الحسن والدلال، لتمضى عيناه بصحبتها حتى تختفى من مساحات الرؤية، فيزوم بشفتيه قبل أن يسحب نفسًا عميقًا من الشيشة، لتعود عيناه مُواصلة التَقَلُبِ بين السارحات، ولسببٍ يعرفهُ كل رواد المقهى يجلس وحيدًا متواريًا خلف كبرياء مصنوع، مُسقطًا على باب أذنيه ما يصلهما من غمز الرواد ولمزهم، لكنهم لا يعدمون حيلةً يباغتونه بها كل حين ليضعوه فى مواجهة حقيقته، وكان أن أغروا به نادل المقهى بعدما أجزلوا له العطاء، فتوجه إليه قاصدًا فى علانيته تغيير حجر الشيشة، ومُضمرًا فى سره مواجهته، رفع النادل الحجر المُحترق، ووضع الجديد محله وراح يوزع فحماتٍ صغيرات متوهجات على وجهه، فيما بدأ الزوج يشد أنفاسه تدريجيًا وهو ينظر بعين الرضا للنادل المُبتسم يواصل ضبطه المبالغ فيه لتوزيع الفحم، فباغته النادل متسائلًا (هوا صحيح ظبطوا مراتك مع الواد حمامه الكهربائي؟)، تحدث الزوج من فوره لتخرج كلماته مطوقةً بدوائر دخان وثقة قائلًا (حمامة ده لا كهربائى ولا بيفهم فى الكهرباء)!. تنسحب أحداث هذه النكتة المرة على واقع عام أمر، ليُصبح بطلها جموع إنسانية عايشتها ويعايشها ملايين من أبناء أمتنا العربية والإسلامية وعموم الإنسانية، يستحيل بطلها خلقا كثرا سقطوا فى شراك تنظيمات الدين السياسية والإخوان على رأسهم، خلقا قرروا أن يُسْلِموا عقولهم على أعتاب بيعة تنظيمية، وأن يخلعوا إرادتهم على باب جماعتهم، وأن يُؤمموا قراراتهم لحساب دين يصفه قادتهم بـ (مشروع) وإن منحوه صفة (إسلامي)، وهكذا يُفرَغ إنسانهم من قيمة الولاء لأسرة الإنسانية الواسعة، أو أسرة الدين الإسلامى الرحبة، أو حتى الأسرة البيولوجية، بحيث لا تكون حياةٌ إلا فى عالم التنظيم، ولا يكون ودٌ خالص إلا داخله، ولا يكون وطنٌ إلا ضمن حدود البيعة، ولا يكون تفاعلٌ مع الواقع خارج هذا العالم إلا عبر ضوابط وتوصيات وجداول متابعة يُحددها التنظيم قُربًا وبعدًا ووصلًا وهجرًا، إنَّه واقع التمكين الأولى للتنظيم من العقل الإنسانى، تمكينٌ يستلب الإنسان تمهيدًا لاستلاب الأوطان، ويحيل الجميع إلى قالب واحدٍ، يعرفه كل مقيم فى براح الله بصفاته القياسية مشيةً واحدة وطَلَة واحدة ومصطلحاتٍ واحدة وحتى البسمة البلاستيكية الموزعة على شفاه مواطنيه، وإذا ما تمت مواجهتهم فرادى أو مجتمعين بسوءات تُخالط عالمهم جلسوا جلسة بطلَ (النكتة) صرخوا بأحرف واثقة البيعة (إنت لا كهربائى ولا بتفهم فى الكهربا)!.

هذه السخرية المصرية الخالصة من واقع العجز الفردى المر، تتجسد واقعًا جمعيًا فى معركة قررتُ دخولها منذ الفرار من أسر عالم الإخوان فى مايو 2011، وللحق فلقد كُنت على علمٍ مسبق بكُل ما سينالنى من نواقص سيكتشفها الإخوان فيَّ بمجرد مغادرتهم، وهو الواقع الذى عاينته مع من فروا قبلى، وحذرنى منه شيخى الراحل المهندس (محسن عبدالفتاح القويعي) الذى غادر الإخوان قبل رحيله 2012، إذ نصحنى فى 2009 (سيقولون فيك ما لم يقله مالك فى الخمر)، لكن أقدار الله أخرت قرارى بالفرار حتى ثورة 25 يناير 2011، وتأهب التنظيم للتمكين حين خرج من عالم الظل، وتسارع خطو الأعضاء إلى التصدر، وبادر الخائفون منهم إلى ارتداء أثواب الثورية، وتحفز أصحاب المصالح للمغازلة والتحالف، وتبرأ العملاء فيهم من عمالتهم، وهكذا تصير شهاداتى محصنة من أقوال (مالك فى الخمر)، لكنَّ عالم التنظيم فى زمن التمكين لا يختلف عنه فى أزمان التعريف والتكوين والتضييق، فالردود القديمة جاهزة، والأنفاس التنظيمية تخرج معبقة بدخان التشتيت بعيدًا عن أصل النقد إلى ذم الناقد، وهو أداءُ مقبولٌ أن يشمل كل عاجز فرد، وكل مُجبرٍ وحيد، وكلَ منسحق بذاته ولذاته، صاحب قرار توحد مع قرنين افتراضيين يُردد بينه وبين ذاته سرًا وعلانية مقولة الراحل نجاح الموجى الشهيرة (تبات سبع تصبح كلب وإياكش تولع)، كانعكاسٍ لحالة انسحاق تجرد الإنسان من أسمى نعم الله عليه (العقل)، وتسحق مع وطأتها على روحه فطرة الاختيار، لكنها حين تتحول من خصوصية الشذوذ الفردى إلى عمومية جمعية، فذلك يعنى أن خللًا إنسانيًا عامًا يستوجب نفير التنبه فحصًا وتشخيصاً ويفرض النفرة علاجًا، مع الإلحاح فى مواجهة الجموع بسوءات جماعتهم بغض النظر عن رأيهم فى صنعة (الكهربائي)!.


لمزيد من مقالات عبدالجليل الشرنوبى

رابط دائم: