رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

تلك الأيام
أسطورة طه حسين

مرض طه حسين «1889 ــ 1973» بالرمد وهو طفل صغير وعولج علاجاً قاسياً بتشريط الأجفان، فأصيب بالعمى. وعاش حياة قاسية بين ظلمات الفقر والعمى فى بيئة الصعيد القاسية، فى قرية الكيلو التابعة لمغاغة بمحافظة المنيا.

وكان زحام البيت الذى يضم 13 من الإخوة والأخوات أشقاء وغير أشقاء يجعل من الكفيف مادة للسخرية والضحك خاصة على الطعام، لدرجة أن تجهش الأم بالبكاء على حال صغيرها بعد أن سرق الجهل نور عينيه.

دموع الأم وسخرية الصغار سوف تقيد الطفل طه حسين بشىء من الرزانة والخوف من الحياة، فيقسو على نفسه ويحرمها من تناول الطعام الذى يؤكل بالملاعق، لأنه لا يحسن استخدامها، ويكره أن يضحك أخوته، وتبكى أمه، أو يعلمه أبوه كيف يأكل فى هدوء حزين كما ذكر فى رائعته «الأيام»، فعاش يأكل قليلا جداً مما أضر بمعدته.

فى هذه الحياة القاسية يقول مندهشاً: إنه لا يعرف «كيف حفظ القرآن، ولا يذكر كيف بدأه ولا كيف أعاده».

ظل طه حسين حتى عمر الثالثة عشرة من عمره يفرق تفرقة غامضة بين الظلمة والنور، وكان يجد فى المصباح إذا أضيء جليساً أو مؤنساً، ويجد فى الظلمة وحشة لعلها كانت تأتيه من عقله الناشئ ومن جسده المضطرب، والغريب أنه كان يجد للظلمة صوتاً يبلغ أذنيه.

إنه صوت الخوف الذى كان يملك عليه مشاعره فيصحو مبكراً قبل إخوته المبصرين، ويعمل على إيقاظهم بمداعبات تغيظهم، فيفزعون، ويطردونه مشيعاً بالشتائم واللعنات، وهو يجد فى ذلك لذة واستمتاعاً، حين يستثيرهم ويعكر عليهم لذة النوم ومتعته، وهذه هى اسطورة طه حسين التى حكمت مجرى حياته فهو دائما سوف يعمل على إيقاظ النائمين بقوة، فيفزعون، ويشيعونه بالشتائم واللعنات ويكفرونه ويطردونه من الأزهر أو الجامعة، لكنه دائما لا يهتز ولا يعبأ مادام قد أيقظهم من سباتهم وظلام عقولهم.

منذ البداية سوف تقوده اسطورته إلى أن يسمع الشاعر أو مغنى الربابة الذى يأتى للقرية، حتى وإن وقف عاجزاً لا يستطيع عبور قناة المياه الصغيرة ليصل إلى الشاطىء الآخر، فيكون قريبا من صوت الشاعر الذى يحكى قصص أبى زيد الهلالى والزناتى خليفة. هذه الحكايات سوف تفتح له الباب فيذهب إلى أبى العلاء المعرى يصادقه ويحس مشاعره، وكيف عاش كفيفاً بعقل متقد يثير الجدل بين رجال عصره، أو يذهب للمتنبى أو عصر الإسلام الأول والفتنة الكبرى فى تاريخ الإسلام.. ينقل لنا هذه الحكايات بعقل ناقد جديد لعلنا نعى ونفكر فنستيقظ.

عندما لاحظ الأب نجابة إبنه قرر أن يلحقه بالأزهر مثل أخيه. وهو لا يدرك أنه يضعه فى قلب أسطورته التى ستقلب حياته وحياتهم رأساً على عقب!

كان طه حسين مسحورا بالأزهر والاحتفال الذى تقيمه الأسرة لأخيه الأزهرى كلما جاء إلى القرية، وحلم كثيراً أن يلحق بالأزهر ليفعلوا معه كما كانوا يفعلون مع أخيه. لكن شيئا من ذلك لم يحدث له، وحتى مشايخ الأزهر كانوا ينادونه تعالى يا أعمى، فتح الله عليك يا أعمى!

فى هذه الفترة من عام 1908 لم يكن طه حسين التحق بالجامعة بعد والتى سوف توفده إلى باريس، وكان فى غرفة بالبيت وسمع بنات يتحدثن عن الزواج ورشحت إحداهن الأخرى للزواج منه، فغضبت الفتاة، وقالت: كيف أتزوج من أعمى؟ فخرج طه حسين من غرفته غاضباً حاملاً كل ما فى أسطورته من قوة، وقال لها: أنه لا يسعده الزواج منها، وإنه سوف يتزوج من فرنسية عندما يسافر لاستكمال دراسته فى باريس، فردت عليه الفتاة، بأنه لن يستطيع حتى إكمال دراسته فى الأزهر.

ولا يمكن لطه حسين أن يقول هذا الكلام قبل أن يلتحق بالجامعة إلا أن تكون أسطورته قد ملكت عليه نفسه دون أن يدرى، وجعلته ينطق بهذا الكلام الذى ربما يدور فى ذهنه كالرؤى كالأحلام بعيدة المنال.

قضى طه حسين أربعة أعوام فى الأزهر كان يعدها أربعين عاماً، لأنها طالت عليه كأنها الليل المظلم، ولم يعد هناك جديدا يثير عقله، فكل دروس الفقه والنحو والمنطق تعيد الكلام نفسه الذى لا يضيف إليه شيئاً.

وبدأ فى نقد تعليم الأزهر من خلال مقالات فى الصحافة مع لطفى السيد والشيخ عبدالمنعم جاويش وبلغ النقد أشده عندما كتب قصيدة كانت السبب فى إسقاطه فى امتحان العالمية.

رعى الله المشايخ إذا توافدوا

الى سافوى يوم الخميس

وإذ شهدوا كئوس الخمر صرفا

تدور بها السقاة على الجلوس

منذ هذه اللحظة استقر فى وعيه أن للمجد مكان آخر، وهو الجامعة التى ستحقق اسطورته فيوقظ النيام دون خوف.

وهذه الحكاية التى يرويها إبراهيم عبدالعزيز فى كتاب «طه حسين وثائق مجهولة» تؤكد الأسطورة الحاكمة لحياة عميد الأدب العربى.

يحكى طه حسين قائلاً: كنت طالبا فى الأزهر وكان أخى الأكبر الشيخ أحمد حسين ولى أمرى، ولما أنشئت الجامعة المصرية، تملكتنى رغبة شديدة فى الالتحاق بها، ومنيت النفس بأن أكون يوماً من الأيام أحد خريجيها، وصارحت أخى بهذه الرغبة. ولكن شقيقى وولى أمرى زجرنى بعنف، وقال لي: لقد جئت إلى القاهرة لتطلب العلم، وهذه الجامعة لاتزال تتعثر ولا أحد يدرى ماذا سيكون أمرها، والشيء الذى لاشك فيه أنها ستصرفك عن الأزهر. وأكدت لأخى أن التحاقى بالجامعة لن يصرفنى عن طلب العلم فى الأزهر، فتركنى غاضباً، وقال: افعل ما تشاء.

وذهب طه حسين إلى الجامعة ووجد أن الالتحاق بها يقتضى دفع رسم قدره جنيه واحد، فطلب من أخيه هذا الرسم. فقال له: هل تريد منى أن أدفع لك ثمن انصرافك عن العلم، هذا مستحيل.

وتضايق طه حسين لهذا الموقف من أخيه وتولاه يأس شديد، وروى لصديق له مأساته، فضحك، وقال: كيف تحمل هموم الدنيا كلها فوق رأسك هكذا من أجل جنيه؟

فقال له: لأنى لا أملك هذا الجنيه، وليس لى أدنى أمل فى الحصول عليه.

فقال له: سأقرضك الجنيه، ولا ترده إلا إذا تيسرت أحوالك بعد سنة بعد اثنتين بعد عشر.

وذهب طه حسين فى اليوم التالى إلى الجامعة ودفع الرسم وأصبح طالبا جامعيا، ثم حصل على الدكتوراه فى ذكرى أبى العلاء المعرى 1914 ليفتح أمامه الباب نحو تحقيق أسطورته كاملة، فالجامعة سوف ترسله فى بعثة ويحصل على الدكتوراه فى فلسفة ابن خلدون الاجتماعية من جامعة السوربون أيضا.

فالأسطورة لابد أن تتحقق ولا يستطيع أى أحد أن يقف فى طريقها، وكل أسطورة قد تتلوى بها الطرق كثيراً لكنها فى النهاية سوف تصل إلى النقطة التى تريد، وقد انشقت الأرض عن هذا الصديق وهو أحمد حسن الزيات فى هذه اللحظة ليكون له الدور المؤثر فى تحقيق أسطورة العميد دون أن يدرى، ودون أن يسدد له طه حسين الجنيه الذى دفعه بالطبع.

فى فرنسا يلتقى طه حسين نصف الأسطورة الآخر سوزان بريسو تلك الفتاة الفرنسية التى ستؤمن بأسطورته وتصبح عينه التى يرى بها، وعصاته التى يتوكأ عليها، وقلبه وعقله الذى يمشى على قدمين محيطاً به وحوله فى كل مكان.

التقاها عام 1915 لتقرأ عليه الأدب الفرنسى وخلال عامين راحت تقرأ أسطورته أيضاً وتزوجته أثناء الحرب العالمية الأولى عام 1917، ولأن كل شىء فى حياة طه حسين وأسطورته غريب، فقد أصر الجميع على أن أرتدى ثوب الزفاف وأن نركب العربية المقفلة، ولم يكن منظر الزيجات آنذاك مألوفاً، لكن الجنود بلغ بهم الكرم كما تذكر سوزان فى مذكراتها أنهم كانوا يبتسمون لنا.

ابتسامة الجنود المحاربين ربما كانت إرهاصاً بما سيحدث فى المستقبل لهذين الزوجين الرائعين عندما يخوض العميد المعارك ضد الخرافة والجهل والتخلف. والزوجة العاشقة تؤازره بالحب والعقل الكبير.

يعود طه حسين إلى مصر بعقل أكثر توهجاً، فى مواجهة الخرافة.

الأسطورة التى قفزت من كتاب القرية إلى الأزهر ثم الجامعة، وعبرت البحر إلى أوروبا من أجل أن تحقق حريتها كاملة، حرية العلم والفكر والرأى دون خوف من العادات الاجتماعية أو خرافات ضاغطة على العقول جاءت بكتاب «فى الشعر الجاهلى» لتخط طريقا جديداً فى البحث والتفكير القائم على الشك الديكارتى من أجل الوصول إلى الحقيقة. فكل شىء مهما كان يقيننا فإنه قابل للبحث والنقاش.

واستيقظ أصحاب العقول الجامدة من سباتهم الطويل فزعين من هذا الرجل الذى يخلخل ما استقر فى عقولهم، فراحوا يرمونه بكل ما فى أيديهم وألسنتهم من قذائف، وحتى سعد زغلول زعيم الأمة هاجمه فى أحد خطبه، وزادت الأزمة ضراما ما أدى إلى طرده من الجامعة، لأنه يفكر ويريد أن يوقظ هؤلاء النائمين من أجل حرية الفكر والبحث والنقد والتحليل.

وقد نصحه البعض أن يسافر إلى فرنسا حتى تهدأ العاصفة، وهناك راح يخط ويستعيد خطى أسطورته فى كتابه الأشهر «الأيام» مستمداً من حياته وأسطورته القوة فى مواجهة الجهل والتخلف.

وعندما عاد للقاهرة مثل أمام النيابة واستمر التحقيق معه لمدة عام وانتهى بقرار وكيل النيابة الرائع محمد نور الذى رأى أن ما ذكره المؤلف كان على سبيل البحث العلمى المجرد، وبالتالى ينتفى عنه القصد الجنائى مما يتعين معه حفظ الأوراق إدارياً.

وسوف يحاول إسماعيل صدقى رئيس الوزراء الجبار استغلال صاحب الأسطورة لمصلحة حزبه، وهو لا يدرك أن الأسطورة لا تعمل إلا من أجل الحق والخير والجمال، ويرفض أن يكون أداة بيد هذا الطاغية فيفتح له ملف الشعر الجاهلى من جديد وينقله من الجامعة إلى وزارة الأوقاف قبل فصله.

وعندما يتضايق محمد محمود رئيس حزب الدستوريين من أسطورته فإنه يحرض طلبة كلية الحقوق بالهجوم على مكتبه فى كلية الأداب عام 1938 ويحطموا أثاثه ليعود العميد إلى اسطورته مرة أخرى ويملى الجزء الثانى من الأيام لينسى مرارة ما حدث.

ولا تتوقف الأسطورة وإنما تواصل عملها من خلال الفكر، القراءة الجديدة للتراث، والرواية، والسيرة، والتاريخ، الترجمة، فى كل مجال كان العميد يلقى بحجر فى ماء راكد غير وجل من الدوامات التى تحدث.

وقد أدرك طه حسين أن اسطورته لن تتحقق إلا بالتعليم فأطلق صيحة التعليم كالماء والهواء، وأنشأ جامعات الاسكندرية وعين شمس، وأسيوط، حتى يتغير مستقبل الثقافة فى مصر ولا يكون هناك معذبون فى الأرض يحتاجون إلى شهرزاد تحكى حكايتهم للملك.

ورغم ماأثاره طه حسين من جدل طوال حياته العريضة فإن الفرقاء السياسيين اتفقوا على عظمة أسطورته، فحزب الوفد اختاره وزيرا للتعليم.

وعندما قامت ثورة يوليو التى أطاحت بالملك فاروق وحكومة الوفد، قام جمال عبدالناصر بمنحه قلادة النيل العظمى عام 1965 وهو وسام لا يمنح إلا للرؤساء.

وكان عبدالناصر عندما التقى طه حسين بعد قيام الثورة، راح يصف للعميد مقاعد حجرة الاستقبال، ثم قال له: حتى لا تصدق ما يقال من أنى نقلت حجرة صالون عابدين إلى بيتى!

عميد الأدب العربى الذى كانت اسطورته إيقاظ النائمين، جاء موته فى 28 أكتوبر عام 1973 بعد أن أستيقظت مصر وثأرت لهزيمة 1967. مات العميد بعد أن تحققت أسطورته فى هذا الشعب بهذا النصر.

لمزيد من مقالات محسن عبد العزيز;

رابط دائم: