يثير قانون «الأمن الشامل» الذى أصدرته فرنسا مؤخرا الكثير من الجدل المشوب بالقلق وعلامات الاستفهام حول مستقبل الديمقراطية الغربية عموما وفى فرنسا على وجه الخصوص. فالقانون تصدره فرنسا التى تفخر دائما بأنها كانت مهد الثورة التى رفعت شعارات «الحرية والإخاء والمساواة»، والتى تأثر بها معظم أوروبا بل ودول العالم، واعتبرتها الأيقونة التى تجسد نمط الثقافة الأوروبية، فإذا بهذه الصورة تهتز فى عقر دار الثورة الفرنسية، وكانت صور قمع الشرطة الفرنسية لأصحاب السترات الصفراء قد أثارت الغبار على الصورة النمطية السائدة عن الديمقراطية الفرنسية، وجاء التذكير بمقتل «آداما تراورى» الشاب من أصل إفريقى على يد قوات الشرطة، ليصب مزيدا من الزيت على النار لتتأجج الاحتجاجات المطالبة بمحاسبة رجال الأمن المسئولين عن الواقعة، وقد شملت العديد من المدن الفرنسية، وشهدت صدامات عنيفة، وأحرق متظاهرون سيارات ومبانى وممتلكات عامة وخاصة، فلجأت الشرطة إلى استخدام القنابل المسيلة للدموع والضرب، لتمتلئ الصحف ومنصات التواصل الاجتماعى بصور قمع المتظاهرين.
وإزاء ذلك تقدمت الأغلبية البرلمانية التابعة لحزب الرئيس ماكرون بمشروع «الأمن الشامل» الذى يتضمن إجراءات أمنية عديدة، لكن أهم ما يثير الخلاف فيه هو المادة التى تتعلق بمنع تصوير ونشر صور رجال الشرطة وهم يؤدون واجبهم ـ حسب نص القانون ـ لكن قطاعا واسعا من الفرنسيين رأى فيه تراجعا خطيرا لحرية التعبير والنشر، وأن الغرض منه هو التستر على عمليات القمع واستخدام العنف المفرط، ولولا كاميرات الصحفيين وأجهزة المحمول لكان من الصعب كشف تلك التجاوزات التى ارتكبتها الشرطة، لتهتز أيقونة الديمقراطية بشدة فى ظل الجدل الحاد الدائر حول العنف والحرية، والقمع والديمقراطية.
فالمادة 24 من القانون تفرض أحكاماً بالسجن لمدة عام وغرامة 45 ألف يورو على من ينشر صورا تسيء للشرطة، والقانون بشكل عام يراه مناهضوه أنه طعنة قوية ضد الحريات، وأنه يوسع من صلاحيات الشرطة ويمحو أى أدلة يمكن أن تدين عنفها، فالغرض من هذا القانون كما يرون، هو حماية العنف، وليس حماية رجال الشرطة فى رأيهم، ولقد تعرض القانون لانتقادات من منظمات كانت تحظى بالكثير من الدعم من جانب الحكومات الفرنسية والأوروبية، ومما زاد من حدة التناقض فى الشأن الفرنسى أن قانون الأمن الشامل صدر بعد فترة قليلة من دفاع ماكرون عن نشر الصور المسيئة للرسول، ووصفه لها بأنها تندرج تحت بند الحريات التى اعتبرها من أسس وأعمدة الثقافة والقيم الفرنسية بينما نشر صور للشرطة وهى تضرب وتقتل يوفر لها حماية من القانون فيمنع نشرها بزعم أنها تسيء إلى الشرطة دون أن يردد مقولة حرية الرأى وحرية التعبير التى يقدسها!
ومع اتساع نزعة «الإسلام فوبيا» والحديث عن التصدى لما يسمى «انعزال المسلمين»، والمقصود به هو وجود اختلافات ثقافية وأخلاقية يرى قطاع من الفرنسيين العلمانيين ونخبتهم السياسية والإعلامية أنها تتعارض مع القيم الفرنسية، لكن ما يروجه هؤلاء ظاهرا هو القبول بالآخر، والتعايش بين ثقافات وقيم متنوعة، بينما فى الواقع هم يرفضون الآخر ويجبرونه على تغيير ما يراه من مقومات هويته العقائدية التى ينبغى أن تحترم، وهو تناقض صارخ فى الخطاب والسلوك المرتبكين فى فرنسا ودول أوروبية أخرى، فإذا كانت تريد رفع قيمة القبول والتنوع فلماذا انتشار «الإسلام فوبيا» والحملات التى شملت الإسلام وليس بعض المتطرفين؟ فبعض المتدينين وغير المتدينين من اليمين المتطرف الذى تصاعدت حدته فى كثير من دول أوروبا يرتكبون أفعالا مرفوضة، ويتبنون العنصرية ضد الأوروبيين من أصول إفريقية وآسيوية، ما يؤكد أن التطرف سلوك لا يرتبط بطرف دون طرف.
ولأن لكل فعل رد فعل فإن التطرف اليمينى المتصاعد بشراسة فى الآونة الأخيرة ضد المسلمين والإساءة إلى رموزهم الدينية والتنمر عليهم، هو الذى يغذى الجماعات المتطرفة، فى الوقت الذى أفسحت فيه أوروبا المجال لقادة الجماعات الإرهابية ليأووا إليها وينفثوا بعض سمومهم التى طالما عانينا منها ولكن صمت آذانهم، وهم الآن يكتوون بما سبق أن اكتوينا به من نارهم.
ولهذا لا ينبغى لفرنسا توجيه سهام النقد وشن الحملات ضد أقليات بعينها، مما يمزق المجتمع ويزيده انقساما وتوترا، وإصدار قوانين تقيد الحريات لمجرد وقوع حوادث فردية من قبل متطرفين، فى الوقت الذى يتم فيه رفع راية حقوق الإنسان فى مواجهة دول تواجه مخاطر كبيرة وحقيقية من جانب جماعات إرهابية أكثر عددا وأكثر شراسة، ارتكبت العديد من المذابح، هذا التناقض يكشف عن ازدواجية فى المعايير، وأن شعارات حقوق الإنسان أصبحت أداة ابتزاز سياسى وليست قيما مجردة.
لمزيد من مقالات بقلم ــ عـــلاء ثابت رابط دائم: