تعلمتُ أن للجدية مكانها وزمانها، وللهو محيطه وأوقاته؛ وأفصلٌ تماما بين الجد واللعب، ولا أخلط بينهما أبداً، فانطبع عليّ شعار: «لا هزل حين الجد، ولا جد حين الهزل»، ولكن أرانا فى حياتنا اليومية كثيراً ما نخلط الجد بالهزل، والهزل بالجد؛ ونتراخى حتى موضع الهزل عندما يتطلب الأمر جداً واجتهاداً، ونَجِدُّ حتى موضع «التزمت» عندما يتطلب الموقف مرحا واستمتاعا. فإن جد بعضنا لعب، وإن لعب البعض الآخر جدّ، فكم منّا تسامر وتكاسل عند قضاء مطالب وحوائج الناس فى الدوائر الحكومية؟، وكم منا تراخى وأجل مهام بحثية أو أخرى معملية أو غيرها ميدانية من أجل زيارة عائلية أو مباراة رياضية أو رحلة صيفية؟ وعلى النقيض، كم منا جادل وتناحر من أجل مباراة كروية، وكم منا عَلَا صوته وتشاجر بالأيدى من أجل دور بمدينة ترفيهية، ثم كم منا انتهى به الأمر بأقسام الشرطة بعد شد وجذب على شاطئ رملى أو مقهى شعبى أو ممشى عمومى؟! يبدو أننا تطرفنا فى تحويل الجد إلى هزل فتحول - واأسفاه - الهزل إلى جد، فصرنا هازلين فى أمورنا الجدية وجادين فى أوقاتنا الهزلية، أهى عملية تعويضية استعضنا بمقتضاها الجدّية والسعى فى العمل والدوام بالتزمت والتعصب فى اللعب والمزاح؟.. أم هى عدم رغبة فى تحمل المسئولية، فخلطنا بين الاثنين لكى تنتفى المساءلة؟ فهل صار هذا السلوك ثقافة تعلى من الجد عندما يتحول هزلاً، والهزل عندما يصير جداً؛ وهل تناست هذه الثقافة منبعاً روحياً أصيلاً يفصل بين الحالين ويتجلى فى قوله تعالى عن القرآن الكريم: «إنه لقول فصل < وما هو بالهزل» (الطارق: 14:13)؟ فلنعد الكَرّة من جديد، ولنكن جادين، ملتزمين، مثابرين عندما يحين الجد والكد؛ وضاحكين، منطلقين، مبتهجين عندما تحل أوقات اللعب واللهو.. عندها سنتوازن نفسياً وروحياً وجسدياً؛ وسنتواصل ونتقارب ونتكامل، فيصبح لسلوكنا وضوح وفهم، ولحياتنا معنى ومغزى، فهل نبدأ من جديد؟.
د. أسامة مدنى
عميد آداب المنوفية
رابط دائم: