إذا كان لكل إنسان أسطورته الخاصة التى تحكم مجرى حياته دون أن يدرى، فإن الرئيس السادات كان عارفا بأسطورته منذ صغره وإن لم يدرك تماما أنها ستكون محور حياته.
كانت الأسطورة التى تحكم حياة الرئيس السادات هى التقمص والتقليد، يقلد زملاء الفصل والكلية وأعضاء تنظيم الضباط الأحرار.
بتلك الأسطورة عاش السادات فنانا واسع الخيال غارقا فى السياسة، يتقمص الأدوار بعبقرية، وفى أحيان كثيرة يختلط علينا الأمر، فلا نعرف أيهما السياسى، ولا أيهما الفنان!
يحكى الرئيس السادات فى مذكراته «البحث عن الذات»: عندما مر غاندى بمصر عام 1932 فى طريقه إلى إنجلترا، امتلأت الصحف والمجلات بأخبار تاريخه وكفاحه، استولت صورته على وجدانى، فما كان منى إلا أن قلدته، خلعت ملابسى، وغطيت نصفى الأسفل بإزار، وصنعت مغزلا، واعتكفت فوق سطح منزل بيتنا عدة أيام حتى أقنعنى أبى بالعدول عن ذلك، فقد كان الوقت شتاء وقارس البرد.
لم يتنبه السادات ولا والده بالطبع أنه يعيش أسطورته التى ستحدد مسار حياته، أسطورة التقمص والتقليد، أسطورة الفن. التى سوف تصبح جواز المرور له إلى قلوب أصحابه، وحتى بعد أن أصبح ضابطا سيكون فاكهة الجلسات فى لحظات السمر والترفيه يقلد الأصحاب والفنانين والزعماء السياسيين.
يذكر السادات أيضا قائلا: عندما زحف هتلر من ميونخ إلى برلين ليخلص بلاده من آثار هزيمتها فى الحرب العالمية الأولى. فى ذلك الوقت كنت أقضى الصيف فى القرية، فجمعت أقرانى وقلت لهم: إننا يجب أن نفعل كما فعل هتلر وإننى أنوى الزحف على القاهرة من ميت أبوالكوم لتحريرها من الانجليز، كان عمره فى ذلك الوقت 11 سنة. فضحك أصحابه وانصرفوا عنه. لكنه لم يضحك ولم ينصرف عن تحقيق حلمه مستعينا بأسطورته الخاصة.
الفنان داخل السادات «أسطورته» منحه الخيال والأمل ليحلم مبكرا بتحرير الوطن، وقاده إلى عالم السياسة. ومن أجل هذا الهدف النبيل، تعاون مع الألمان ضد الانجليز ودخل السجن عام 1942 بتهمة الاستيلاء على جهاز لاسلكى والتجسس لمصلحة الألمان.
ثم دخل السجن مرة أخرى عام 1944 وهرب منه وظل هاربا حتى سقطت الأحكام العرفية.
وفى أثناء هروبه، وفى كل المواقف الصعبة، سوف يستدعى أسطورته، أسطورة الفنان داخله. فيطلق لحيته ليخفى ملامحه ويسمى نفسه الحاج محمد، ويعمل حمالا على سيارة نقل، ينقل الأحجار، وفى آخر الليل ينام فى جراج مسقوف بالصفيح، كما يعمل فى شق الترع، ومناجم الرخام وفى بناء استراحة الملك فاروق.
كل ذلك وهو لايدرك أنه يعيش داخل أسطورته الخاصة، وأنه ليس فقط مناضلا هاربا من سجانيه الذين يجثمون فوق صدر الوطن.
وفى حادث اغتيال أمين عثمان عام 1946 الذى قال: علاقتنا بانجلترا زواج كاثوليكى، اتهم السادات أيضا، وقبضوا عليه مرة أخرى، وأخذوه إلى سجن الأجانب فى زنزانة انفرادية، وكان متهما معه محمد ابراهيم كامل الذى اختاره السادات وزيرا للخارجية فيما بعد.
وبعد أن قضى السادات فى السجن 31 شهرا خرج فى يونيو 1948 ليقابل الفتاة جيهان صفوت رؤوف التى سوف تصبح حارسة الأسطورة.
فتاة صغيرة عمرها 15 عاما، تقع فى غرام صاحب الأسطورة الذى يكبرها بـ 15 عاما، مطلق ولديه ثلاثة أطفال، ومطرود من عمله، فأى فتاة هذه إن لم تكن حارسة الأسطورة؟!
صارت حياة الرئيس السادات مثل أى بطل سينمائى، يبحث عن حلمه الخاص، ويتعرض للمصاعب والمضايقات، وفى لحظة ما يلتقى البطلة التى يكون لها دور كبير فى تحقيق حلمه، وكانت جيهان صفوت فعلا هى بطلة حياته.
صعد السادات إلى القمة والبطولة بعد أن قام بالعديد من الأدوار الصغيرة والكبيرة قبل الثورة، ثم اتسعت مساحة الدور، وأصبح صديق البطل «عبدالناصر» بعد الثورة، حتى قام بالبطولة المطلقة فتألق وأبدع فى الحرب والسلام.
حتى تتحقق الأسطورة كان لابد أن يعود السادات للجيش مرة أخرى.. وقد عاد، وكان تاريخه السياسى وروحه المرحة من العوامل التى دفعت عبدالناصر إلى أن يضمه إلى تنظيم الضباط الأحرار، ويجعله عينيه على القصر، مستفيدا من العلاقة التى تربطه بيوسف رشاد المقرب من الملك فاروق.
بجانب عبدالناصر راحت الأسطورة تصحو أكثر، وتخطو خطواتها نحو التحقق، فقد كان على السادات أن يستدعى الفنان داخله وأن يعيش فترة كمون بجانب الزعيم الخالد، فلا يحاول أبدا أن يسرق الكاميرا من البطل.
أدرك السادات مبكرا أن عبدالناصر هو المخطط، وهو الرجل القوى فى تنظيم الضباط الأحرار، فلم يعارضه أبدا، يقول فى مذكراته: عشت مع عبدالناصر 18 سنة دون نزاع أو صراع على الإطلاق. وفى أحد اجتماعات مجلس قيادة الثورة وقع لهم على بياض أن صوته مع عبدالناصر فى كل القرارات التى يتم التصويت عليها!
بالحنكة السياسية أو ربما قدرة الأسطورة تيقن السادات أن الثوار سوف تأكلهم الصراعات، وعليه أن يكمن فى الظل حتى تأتى اللحظة المناسبة لمن يستطيع أن يستمر فى المشهد السياسى. وبالفعل جاءت هذه اللحظة بعد أن غيبت الأحداث والاغتيالات والسجون رجال الثورة الأقوياء ولم يبق إلا السادات فقط مع الرئيس عبدالناصر.
وجاءت اللحظة التى تعمل عليها الأسطورة منذ كان السادات طفلا يقلد غاندى، عندما اختاره عبدالناصر نائبا له، وكانت أسطورة السادات فى برج حظها وقوتها، فسريعا مات عبدالناصر وأصبح السادات رئيسا.
واستدعى السادات ما فى أسطورته الفنية من دهاء وقوة مارسهما طوال حياته.. وسأل نفسه، كيف يحمل هذا العبء الثقيل فى بلد مهزوم، بعد زعيم ملأ الدنيا وشغل الناس؟ أى اختبار هذا؟
لكنه كداهية يجيد كل الأدوار، أول شىء فعله، انحنى لتمثال عبدالناصر، وراح يترك مكانه فى الاجتماعات شاغرا فمن يملأ مكان الزعيم الخالد؟!
اجتهد السادات بذكاء شديد كى يقنع رجال عبدالناصر أنه سوف يسير على خطى الزعيم. وكانت تلك لحظة فاصلة، وأسطورة الفنان تعمل بكل دقة وتحسب لكل خطوة حسابها، فأى خطأ سوف يفقده كل شيء. خاصة أن رجال عبدالناصر الأقوياء يقبضون على السلطة فى وزارات الدفاع والإعلام والداخلية الخ. وهو رجل جاء من الظل إلى وهج السلطة الذى يعمى العيون فجأة.بدأ الصراع بينه وبين رجال عبدالناصر مكتوما، لكنه راح يكبر كل يوم، فكان ينام والمسدس تحت رأسه فى انتظار لحظة الهجوم والقبض عليه، ولذلك عندما قدموا الاستقالات سواء رفضا للعمل معه واعتراضا على سياسته، أو بهدف إسقاطه. فإنه قبل الاستقالات وأمر بالقبض عليهم جميعا، وكفنان بارع أطلق على ذلك ثورة تصحيح!.
ومنذ هذه اللحظة دانت له السلطة والبطولة المطلقة، لكن القلوب كانت حزينة، ونكسة 67 ثقيلة، وكل ما يمور فى قمة السلطة على خطورته ليس شيئا ذا بال فى عقول الناس الذين يريدون الحرب والثأر للهزيمة.
هنا دور العمر ولابد للأسطورة أن تكون فى أوج قوتها ودهائها وذكائها وخداعها وصبرها وشجاعتها. وقد كان فجاء تخطيط حرب أكتوبر والخداع الاستراتيجى وتحقيق النصر.. ما أبهر العالم.. وراح الجميع يسأل كيف؟ ومتي؟ ومن؟.
وكانت الاجابة إنه التخطيط والدهاء والخداع، وقوة هذا الشعب، وعبقرية جيشه الصامد، وأسطورة السادات التى أوهمت العالم بضعفها وهى أقوى من الجميع.لكن الغريب والمدهش أن البطل أسكره النصر الباهر فراح يقوم بكل الأدوار ــ جاءت سينما المقاولات ــ بدأ تكسير تمثال عبدالناصر وأطلق عليه الأقلام تنهش تاريخه وتنال من عظمته. ثم جاء انفتاح السداح مداح، والديمقراطية لها أنياب، والمثقفون الأفندية الأراذل. وكان يفاجئ الجمهور بأدوار عديدة، مرة يرتدى العباءة، ومرة ملابس المارشال، ومرة يركب دراجة أو يحلق ذقنه وهو يرتدى الملابس الداخلية.
لكنه عندما أحس أن كل ذلك لايجذب الجمهور قرر أن يقفز إلى المغامرة الكبرى فى تاريخه ومستقبله.
راح يحشد نفسه استعدادا للدور المثير الذى سيجعله فى عين العاصفة.
أعد نفسه ساعات طويلة لدور عمره الذى سيجعله يدخل التاريخ بطلا مثيرا للجدل دائما.. وهل يستطيع أحد أن يفكر فى زيارة اسرائيل دون أن يكون بداخله فنان جامح الخيال؟!
وإلى الآن مازلنا نتساءل، كيف استعد السادات للقيام بزيارة اسرائيل، طاويا سنوات الدم والدموع؟ كيف استطاع أن يجعل نفسه محط أنظار العالم؟
وبعد أن كان يقلد غاندى فوق سطوح منزله، أصبحت كاميرات العالم مسلطة عليه لحظة نزوله مطار بن جوريون فى تل أبيب.
كيف استطاعت الأسطورة أن تصمد بهذا الكم من الإبداع والدهشة؟
هذا السياسى الفريد الذى ينزل من الطائرة فى مطار أعدائه فنان عالمى يحقق أسطورته الخاصة، بطريقته الخاصة، ويجبر العالم أن يدخل فى رأسه ليعرف ما الذى يدور فيه دون جدوى!
الرجل نفسه كان أسير أسطورته الخاصة! كان يلبى النداء ويقوم بأى دور، فقدراته الإبداعية تسمح له بالكثير، وعلى السياسيين والمحللين أن يلهثوا وراءه ليفسروا ويعرفوا ويفهموا، سوف يفعلون ذلك كثيرا فى حياته وبعد مماته دون أن يصلوا إلى إجابات شافية حول مواقف الرجل.
الإسرائيليون أنفسهم لم يصدقوا تماما أنه جاء للسلام، وجهزوا صواريخ لضرب طائرته!
لكنه مثل أى فنان عالمى نزل بثقة جنرال منتصر، وصافح الأعداء فى أرض المطار، وراح يلقى عليهم خطابا من أبدع الخطب الانسانية، تعبيرا عن السلام بكل جرأة وصراحة وفن. أسطورة السادات لم تكن لتسمح له أن يموت كما يموت الناس، لابد أن يموت على خشبة المسرح وهو يحتفل بالنصر. لابد أن يموت فى كامل ملابسه العبقرية، حوله رجاله وأركان قوته، وعلى الهواء مباشرة، لابد أن يرى موته العالم، كما رأى حياته وأسطورته.
من أين جاء السادات وأين ذهب؟
هذا الذى كان يجيد التقمص على سطح منزله كيف له أن يجذب أنظار العالم طوال فترة حكمه، وتكون لحظة الختام هى أقوى لحظة دراماتيكية فى أسطورته. فالرجل الذى عاش أسطورته بكل ذرة فى كيانه لم يكن له أن يموت دون أن تكون أسطورة الفنان داخله فى أنصع اللحظات توهجا: لقد كان موته شهابا وقمة الدراما فى حياة كانت كلها دراما، وتلك أسطورة السادات التى حكمت حياته منذ كان طفلا يقلد غاندى على سطح منزله، حتى أصبح سياسيا عالميا، قادرا على أن يجذب إليه أنظار العالم حيا، وتكون وفاته ذروة الدراما وذروة الأسطورة أيضا.
رابط دائم: