رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

راهب جيولوجية مصر ونيلها الخالد..
100عام على ميلاد رشـدى سـعيد

محمد البرغوثى;

مؤلفاته عن جيولوجية مصر ونهر النيل وقضايا الطاقة وتعمير الصحارى وتغير المناخ لاغنى عنها لأى مسئول أو قارئ مهموم بقضايا الوطن

حذر فى وقت مبكر من إشراك «البنك الدولى» فى مفاوضات «مبادرة حوض النيل».. وكشف عن تحريض البنك لإثيوبيا لبناء سد يحجز المياه عن دولتى المصب

محمد حسنين هيكل: رشدى سعيد ظل محجوبا عن الخدمة العامة حين كان المجال مفتوحا إلى درجة العربدة أمام ثلاثية الجهل والعجز والفساد

رصد فى سيرة حياته كيف تحولت كلية علوم القاهرة من منارة علمية عالمية إلى مستنقع للكراهية بسبب أستاذ ينتمى إلى جماعة الإخوان المسلمين

اعتناق شقيقه للإسلام لعب دورا فارقا فى تعكير حياته وظلت الأجهزة تطارده بتهمة الانتماء إلى عائلة متعصبة دينيا

رؤساء الحكومات المتعاقبة حتى عام 2011 استمعوا إلى مشو رة الدجالين وصموا آذانهم عن دراسات وتحذيرات رشدى سعيد فى قضيتى المياه وتعمير الصحراء

 

 


هذا هو الوقت الأكثر مناسبة لاستعادة كل جملة وكل دراسة أو كتاب، للعالم الجيولوجى المصرى

الدكتور رشدى سعيد. ومنذ اللحظة التى أعلنت فيها إثيوبيا عن بناء سد النهضة على النيل الأزرق، عادت كتابات رشدى سعيد لتكون المرشد الأكثر قيمة وأمانة لكل من يعنيه حاضر ومستقبل مصر، فى ظل تهديد الوجود الذى يمثله حجز مياه النيل عن دول المصب. وعلى الرغم من مرور أكثر من 7 سنوات على رحيل هذا العالم الفذ، فمازالت كتاباته هى الأكثر حضورا فى قضايا المياه والطاقة وتعمير الصحارى وتطوير التعليم والبحث العلمى، وكأنه حى بيننا، يتابع لحظة بلحظة كل هذا الجدل العاصف حول أهم قضايانا المصيرية.

ولد رشدى سعيد فى القاهرة عام 1920، وقد أوشك عام 2020 أن ينتهى دون أن تنتبه الجهات المعنية وهى كثيرة إلى استحقاق هذا الرجل لاحتفالية كبرى تستمر عدة شهور، بمناسبة مرور مائة عام على مولده. ولايقوم الاستحقاق فقط على القيمة الإنسانية الملهمة التى تجسدت فى حياة هذا العالم الكبير، ولكنها تقوم أيضا على احتياجنا الشديد مسئولين ومواطنين إلى مؤلفاته ودراساته المهمة عن «جيولوجية مصر» و«جيولوجية نهر النيل» و«نهر النيل نشأته واستخدام مياهه فى الماضى والمستقبل» و «مصر المستقبل المياه والطاقة والصحراء»، ثم كتاباته المرجعية عن قضايا تغير المناخ وتلوث البيئة وأزمة العلم فى مصر ومخاطر المعونات الأجنبية، والمشروعات العلمية المشتركة الممولة من جهات أجنبية، وغيرها من عشرات القضايا الأخرى التى مازالت وستظل لسنوات وعقود طويلة تتحكم فى حياة المواطن المصرى من رغيف العيش إلى التعليم والصحة والسكن والعمل، إلى الحق فى الاستمتاع بشواطئ البحار والبحيرات التى منحها الله للمصريين فاختطفتها أقلية فاسدة وحولتها إلى مشروعات استثمارية دمرت الطبيعة، وحرمت غالبية المواطنين من الاقتراب منها!.

وهذا الرجل الذى أخطأه التكريم فى بلده، حيا وراحلا، كان له الفضل فى وضع الأسس العلمية الراسخة لجيولوجية مصر، وخلال الفترة التى تولى فيها رئاسة مؤسسة التعدين والأبحاث الجيولوجية بين عامى 1968 و 1977، لم يترك هو ورجاله شبرا واحدا من صحارى مصر إلا وأخضعه للبحث والاستكشاف والاختبارات المعملية لسطحه وأعماقه، ومن يطالع كتاباته عن تعمير الصحارى وكتاباته عن حاضر ومستقبل الطاقة فى مصر، لايملك إلا أن يقف مذهولا أمام هذه الكفاءة النادرة التى تمكنت فى فترة مبكرة جدا من التنبؤ بكل اكتشافات الغاز والبترول الحديثة فى صحارى مصر ومياهها الإقليمية والاقتصادية فى البحر الأبيض المتوسط، ولايملك إلا الأسى البالغ من فرط إهمال الحكومات المتعاقبة لتحذيرات الرجل من تصريحات وكتابات «الدجالين» عن ثروات مصر من المياه الجوفية، فقد كان رشدى سعيد أول من قال بحسم، إن مصر لن تجنى غير الندم والحسرة من الاندفاع غير المدروس لزراعة الصحراء ودق الآبار لسحب المياه من خزانها الأرضى دون حساب أو نظر إلى المستقبل، ودون اعتبار بالماضى الذى تقف أطلاله فى الصحارى المصرية على طول درب الأربعين بالصحراء الغربية شاهدا على ضحالة المياه الجوفية فى الخزان الأرضى، وعلى عدم تجددها، وعلى انهيار عشرات المشروعات الزراعية المقامة عليها منذ العصر الرومانى وحتى منتصف القرن العشرين بسبب النضوب الكامل لمياه الخزان الجوفى.

لقد كانت «الحسرة» تحديدا، هى الشعور الذى لازم الدكتور رشدى سعيد خلال عمره المديد «93 سنة»، وخلال حياته العملية فى الجامعة ومؤسسة التعدين والبرلمان المصرى وغيرها من المؤسسات والهيئات والجامعات العالمية التى عمل بها دارسا ومحاضرا وزائرا طيلة أكثر من 70 عاما.

وفى الوقت الذى علت فيه أصوات الكذبة وأصحاب الأغراض وربما الخونة بالإفتاء الصاخب فى أخطر قضايا الوطن، مثل الطاقة والثروات التعدينية والمياه والزراعة والتعمير وحل مشكلة الإسكان المزمنة والبحث العلمى والأقباط فى إطار الجماعة الوطنية، ظل صوت الدكتور سعيد محجوبا بفعل فاعل، وظلت كتاباته ــ وهو الأكثر اختصاصا وكفاءة ــ مطمورة تحت أطنان من الكتابات التافهة.

المدهش أن الدكتور رشدى سعيد بذل أقصى ما يمكن أن يبذله عالم صاحب ضمير لكى يصل صوته إلى القائمين على أمر هذا الوطن، فقد ظل ينشر مقالاته فى الأهرام ومطبوعات دار الهلال ومجلة وجهات نظر بانتظام شديد، وظل يرسل دراساته بلغة بسيطة إلى رؤساء الحكومات كلما أعلنوا عن مشروع جديد لزراعة الصحراء أو تصدير الغاز أو إقامة منتجعات سياحية على سواحل البحرين الأحمر والمتوسط وقناة السويس، أو التفكير فى إقامة مجتمعات عمرانية حول بحيرة السد العالى، أو الدخول فى مفاوضات جديدة حول «مبادرة حوض النيل»، ولكن كل رؤساء الحكومات، وكل وزراء الرى، تجاهلوا عن عمد كل تحذيراته، واحتفوا أشد الاحتفاء بدراسات كبار موظفى البنك الدولى، والدراسات المتهافتة لموظفين مصريين يعملون فى خدمة هيئات ومؤسسات دولية، ويتقاضون مرتبات ومكافآت ضخمة مقابل هذا التدليس الإجرامى الذى مارسوه ضد شعوبهم.

ولعل هذا الإحساس بالحسرة على تجاهل صوته أو ضياعه وسط الصخب التافه، هو الذى دفعه عام 1996 إلى أن يطلب من الكاتب الكبير الأستاذ محمد حسنين هيكل أن يكتب مقدمة لكتاب «الحقيقة والوهم فى الواقع المصرى»، الذى كانت دار الهلال على وشك نشره للدكتور سعيد، فاستجاب هيكل على الفور، وكتب مقدمة بدأها بقوله: «حين طلب منى صديقى الكريم الدكتور رشدى سعيد أن أقدم كتابه هذا لعامة القراء لم أتردد لحظة واحدة، عن شعور عميق إلى درجة اليقين بأن ذلك واجب عام أكثر من حماسة لصديق شخصى. والشعور بالواجب العام ينشأ من مشكلة عانت منها مصر، ولازالت تعانى، وهذه المشكلة تتمثل فى مفارقة مؤداها أن كثيرين من الذين ليس لديهم مايقولونه فى شئون هذا البلد وشجونه لايكفون عن الكلام، بينما الذين لديهم مايقولونه لايملكون فرصة كافية لقوله. وبنفس المقدار فإن كثيرين من القادرين على الخدمة العامة محجوبون عنها، فى حين أن المجال مفتوح إلى درجة العربدة أمام ثلاثية الجهل والعجز والفساد».

ويضيف الأستاذ هيكل ما أراه تلخيصا جامعا لأزمة كل الكفاءات النادرة فى هذا البلد: «إن هذه المشكلة، أشد ماتكون وضوحا فى حالة رجل مثل الدكتور رشدى سعيد. فنحن أمام أستاذ فى الجيولوجيا خطا من الجامعة إلى المجتمع، ومن العلم إلى الثقافة، حين استطاع أن ينفذ من طبقات الأرض إلى حياة البشر الذين يعيشون فوقها، ثم استطاع أن يحيط بطبقات الأرض وحياة البشر فى وطن بذاته إحاطة تربط الجرافيا والتاريخ، تصل الحاضر والمستقبل، وتكشف بالعلم والحكمة مطالب التقدم والعمران حين تصنع نوعا راقيا من المعرفة المتكاملة القادرة على الإلهام والتأثير. إن رشدى سعيد رجل تسعى إليه جامعات الدنيا وتستضيفه محافلها، لكن وطنه بشكل ما لايسعى إليه بالقدر الكافى، وهو رجل مطلوب فى كل مكان ولكن وطنه لم يستدعه للخدمة العامة إلا لفترة قصيرة فى منتصف الستينيات وأوائل السبعينيات، ثم أزاحته أجواء السياسة عن مواقع التفكير والتنفيذ وتخلت عنه لكى يحتضنه هؤلاء الذين عرفوا قدره من خارج وطنه لسوء الحظ لكن الرجل حيث ذهب وحيث كان لايرفع عينيه عن وطنه، يتابع من بعيد مسيرته ويشارك من بعيد فى همومه، ويتحامل على نفسه بين وقت وآخر، يكتب أو يتكلم».

إن هذه الشهادة البالغة الدقة من أستاذ ومثقف موسوعى بحجم هيكل، لابد أنها أثلجت صدر الدكتور رشدى سعيد، الذى عانى لسنوات طويلة إهمال رأيه فى أمور لايوجد من يجرؤ على الخوض فيها دون استدعاء رأيه والاسترشاد بدراسته المستفيضة عنها، ولكنهم فعلوها مرات عديدة واستمعوا بإنصات كارثى إلى استشارات شركات المقاولات العالمية، ومكاتب الاستشارات المريبة، بل احتفلوا بـ «دجال وأراجوز عالمى» ومنحوه وقتا ومالا واحتراما لايستحقه، كاد أن يورط مصر فى مشروع عملاق يتعلق بتعمير وتنمية الصحارى، ولكن الصدفة لعبت دورا فارقا فى تأجيل مشروعه الكارثى بسبب حالة الاضطراب التى عانتها مصر بعد أحداث 25 يناير 2011.

ولعل من حسن حظ العقل المصرى عموما، أن الدكتور رشدى سعيد تحامل على نفسه واستجاب لإلحاح الأستاذ مكرم محمد أحمد، وكتب سيرته التى نشرتها دار الهلال عام 2000 تحت عنوان «رحلة عمر ثروات مصر بين عبدالناصر والسادات»، وأعادت نشره الهيئة المصرية العامة للكتاب عام 2012 ضمن إصدارات مكتبة الأسرة، ومثل كل كتابات رشدى سعيد، يصعب تماما عرض تلخيص شاف لسيرته الذاتية أو لأى كتاب من كتبه، فكل سطر فيها وكل جملة ليس فيهما مايمكن استبعاده، والقارئ المهموم بأمور وطنه، والباحث المشغول بثروات وموارد هذا الوطن، وكل مشتغل بالشأن العام، فى حاجة ماسة إلى اقتناء كتب هذا الرجل خصوصا كتبه «نهر النيل» و«مصر المستقبل» و«رحلة عمر» و «الحقيقة والوهم فى الواقع المصرى».

ورغم صعوبة عرض أهم ماتضمه كتب رشدى سعيد، تظل هناك خطوط عريضة تشير إلى مابعدها من كنوز فكرية وعلمية وثقافية مدهشة لايمكن الاستغناء عنها، خصوصا أنه إلى جانب تخصصه فى الجيولوجيا وكل مايتصل بها من علوم، رجل واسع المعرفة وعلى صلة وثيقة بأهم مصادر المعلومات، يملك قدرة فائقة على فرز المعلومات وتبويبها واختبارها ووزنها، ثم هو بعد ذلك كله، صاحب أسلوب رفيع فى الكتابة، ويملك القدرة على عرض أعقد الموضوعات بأسلوب واضح صريح لاغموض فيه ولا ادعاء، وهى القدرة التى أهلته أكثر من مرة لقراءة وعرض وتقييم الكتب والنشرات والدراسات التى تصدرها الهيئات الدولية وخصوصا البنك الدولى حول قضايا المياه والطاقة والتنمية فى دول العالم الثالث. انظر مثلا عرضه المدهش للكتيب الصغير الذى أصدره البنك الدولى عن «مبادرة حوض النيل» عام 2001 ثم أعاد نشره فى كتابه القيم «مصر المستقبل» الصادر عن دار الهلال فى مارس 2004 وهذا الكتيب تحديدا كما عرضه الدكتور سعيد وثيقة شديدة الخطورة لأنها تعد أول وثيقة منشورة بها بعض التفصيلات عن المبادرة التى كثر الحديث عنها لعدد من السنوات دون إعلان عن تفاصيلها التى أخفيت تماما عن الناس بل وعن المختصين من غير ثقاة البنك الدولى ومستشاريه.

وخلال العرض يتوقف العالم الجليل أمام اللغة المعقدة التى استخدمها البنك الدولى فى صياغة نشراته، وأصبحت أهم سمات الكتابة «الأممية»، والتى أعتقد أن المؤسسات الدولية قصدت إدخالها واستخدامها بعد أن وجدت أفكارها وبرامجها غير مقبولة وتلقى المعارضة على مستوى الشارع، مما دفعها إلى التفكير فى أن تجعل هذه الأفكار مبهمة وصعبة الفهم على عامة الناس حتى يبتعدوا عن الكلام عنها أو حتى الاهتمام بها.. وهو بعد عرض واف لأهم ملامح المبادرة يلاحظ «أن عصب المبادرة يقع فى مجالين أساسيين هما التجارة فى الكهرباء وتنمية مصادر المياه للاستخدام المشترك بين دول الحوض، وهما مجالان لايمكن تصور قيام مشروعاتهما دون ضبط مياه النهر وإقامة السدود عليه... ومع ذلك فإنك لاتجد هاتين الكلمتين «السدود والضبط» تردان فى أى سطر من سطور الكتاب، فقد تفادى كاتبوه الكلام عنهما بسبب الحساسية الشديدة الخاصة بموضوعهما.

ويشير الدكتور سعيد إلى أن كتاب البنك الدولى اهتم بالتركيز على حملات الدعاية لمبادرة حوض النيل، ورصد لها أموالا طائلة لإعداد الرأى العام بل والحكومات ذاتها لقبول القيام بالمشروعات التى عرضتها المبادرة فى دول حوض النيل، وما يستتبع ذلك من نظام نهرى تكون فيه المياه منضبطة والحصول عليها مقننا وبسعر يحكمه السوق».

والمثير فى الأمر كله أن الدكتور سعيد بعد أن انتهى من عرض الوثيقة الإجرامية التى تبناها البنك الدولى، فجر مفاجأة مدوية لم ينتبه إليها أحد فى حينها «عام 2001» حيث كشف عن أن البنك الدولى لديه مشروع قدمه أحد كبار موظفيه فى «الكونزورتيوم» الدولى للتعاون من أجل النيل»، يتلخص فى «بناء سد لحجز المياه فى إثيوبيا وتنظيم خروجها من الخزان على مدار السنة، بدلا من النمط الحالى الذى يأتى بمعظمها فى موسم واحد».

وآنذاك أكد الدكتور سعيد أن بناء هذا السد سينقل عملية التخزين القرنى للمياه من السد العالى إلى سد إثيوبيا، «وسيجعل مصر رهينة لهذه الدولة، وهو المصير الذى كانت مصر وعلى طول تاريخها الحديث، وحتى ظهور المبادرة، تسعى جاهدة لكى تتفاداه بالحفاظ على الوضع القائم ومنع تدخل أى طرف ثالث فى أمور النهر إن أمكنها ذلك، أو احتواء آثار هذا التدخل إن لم تستطع منعه».

وهو إذ يؤكد انعدام فوائد مصر من هذه المبادرة، وأنها لن تجنى منها غير نقص حصتها من المياه، فإنه يتوقف ليسجل فائدة واحدة لم يتعرض لها أحد قبله أو بعده: «وإنى أخشى أن يكون غاية ماسيصيب مصر من هذا الوضع الجديد، هو بعض الوظائف الأهمية عالية الرواتب والامتيازات، والتى غالبا ماستكون من نصيب بعض كبار المصريين المشاركين فيها، بعد أن يحالوا إلى المعاش أو يتركوا مناصبهم فى مصر»!!

والمؤلم أن هذا قد حدث حرفيا!

بمثل هذه الجسارة وهذا التجرد فى تصديه لأهم قضايا مصر، وفى تأمله لأحوال البلاد والعباد، يجلس الدكتور رشدى سعيد عام 2000 ليكتب مذكراته أو رحلة عمره، ومن الصفحة الأولى يصارح القارئ بقوله: «وإنى أكتب رحلة حياتى هذه بمناسبة بلوغى سن الثمانين، وهى سن تسمح لى أن أكتبها دون مواربة، فلم تعد لى فى هذه الدنيا مصالح أخشى عليها - وفيما عدا الستر والصحة اللذين ليس فى قدرة البشر أن يمنحوهما - ليست لى مطالب عند أحد أو مطامع أريد أن أحققها».. ثم هو بعد ذلك يفتح كل الموضوعات المسكوت عنها فى مصر من نظام الحكم «الذى يرى أنه مازال يحتفظ بالكثير من سمات نظام الحكم فى العصور الوسطى»، إلى علاقة نظام الحكم بالسلطة الدينية، وموضوع الأقباط فى إطار الجماعة الوطنية «وهو الموضوع الذى عاش شبحه معى طوال حياتى العملية منذ عودتى من بعثتى العلمية سنة 1951».. وهو فى هذه السيرة الحياتية والعلمية يرصد بدقة بالغة متى وكيف تم إفساد الحياة العلمية فى الجامعات المصرية، خصوصا كلية العلوم جامعة القاهرة، التى عاد إليها من بعثة علمية فى جامعة هارفارد حاصلا على أول دكتوراه مصرية فى الجيولوجيا من هذه الجامعة العريقة، ولايستنكف الدكتور سعيد أن ينكا الجرح الذى طالما آلمه، جرح أنه مصرى قبطى ولد وتربى وتعلم فى القاهرة وتشرب روح النهضة العظيمة التى شهدتها مصر بعد ثورة 1919، وفى ظل دستور 1923 الذى لم يكن فى مواده أدنى أثر للتمييز الدينى الذى جاءت به الدساتير اللاحقة. التحق الدكتور سعيد بكلية العلوم عام 1937، وكانت سنوات الدراسة بها من أسعد سنوات حياته «فقد كان التعليم فيها حرا وفاتحا للأفق. كنا نستمع إلى محاضرات الأساتذة الذين كانوا يوجهوننا إلى المراجع لنعود إليها فى المكتبة.. وكانت الجامعة المصرية بالفعل ــ وعلى الأخص كلية العلوم معهدا متقدما به الكثير من أفضل الأساتذة الأوروبيين، فقد كانت مصر تتيح لهم، بالإضافة إلى العيش الطيب، الفرصة للقيام بالبحث العلمى، الذى كان ومايزال من أهم علامات الجامعة المتقدمة».

وهو يشير إلى أن كلية العلوم آنذاك كانت فى نفس مستوى نظيراتها فى الخارج، «حتى إنها كانت وحتى نشوب الحرب العالمية الثانية ترسل إجابات امتحانات طلاب البكالوريوس فيها إلى جامعة لندن ليشارك أساتذتها فى تقييمها.. كما أنها كانت تنتقى ممتحنى رسائلها الجامعية من بين أساتذة أكبر الجامعات الأجنبية».

بعد تخرجه من علوم القاهرة عام 1941، رشحه الدكتور مصطفى مشرفة عميد الكلية للعمل موظفا فى شركة القصير للفوسفات فى البحر الأحمر، فقضى بها عاما ونصف العام وصفها بأنها من أخصب سنى العمر، لأنها فتحت عينيه على حقائق الحياة العملية وتطبيقات العلم، وكذلك على حقيقة مأساة المصرى وغربته فى بلده ــ كانت مصر آنذاك تحت الاحتلال البريطانى ــ «فقد كان عصب العمل بالشركة هم عمال التراحيل الذى كانوا يساقون من بلادهم بالصعيد للعمل تحت السطح فى مناجم ذات أعماق سحيقة».. وهو يرى بعينيه كيف كان هذا العمل الشاق يجهز على العامل وهو فى الخامسة والثلاثين من العمر على الأكثر.

آنذاك، كان قلب رشدى سعيد معلقا بالبحث العلمى ولاشىء غيره، وكان يدرس الماجستير من خارج الجامعة، وشاءت المصادفات أن يتم تعيينه معيدا عام 1943، ليعيش فى علوم القاهرة أسعد لحظات حياته، وفى عام 1945 تم إرساله فى بعثة علمية إلى زيورخ، ولكنه تركها وسافر إلى جامعة هارفارد بالولايات المتحدة الأمريكية، وحصل منها على الدكتوراه فى الجيولوجيا عام 1950، وقضى هناك عاما إضافيا قام خلاله بالتدريس ونشر عددا من الأبحاث فى أمهات المجلات العلمية العالمية.. «وأخذت أتبادل الأبحاث مع المشتغلين بفرع العلم الذى تخصصت فيه، مما جعل من مكتبتى واحدة من المكتبات النادرة، حتى إنها كانت الأساس الذى أسهم فى بناء وحدة البحث العلمى التى بنيتها فى كلية العلوم عند عودتى من البعثة».

عاد الدكتور رشدى سعيد من البعثة عام 1951، وإذا به أمام بيئة أخرى مختلفة عن البيئة التى كانت عليها كلية العلوم قبل أن يغادرها إلى أوروبا وأمريكيا، فقد تسبب صعود تيار اليمين الدينى فى إفساد الجامعات، ويرصد «سعيد» قصة أستاذ جامعى بقسم الجيولوجيا فى كلية العلوم كان منتميا إلى جماعة الإخوان المسلمين، وكان دائم الشكوى من مؤامرات وهمية يعزوها إلى الأساتذة العلمانيين والأقباط فى الكلية، ولم يكن هذا الأستاذ يفعل شيئا غير تجنيد الطلاب الجدد وضمهم إلى الإخوان، وكانت طريقته فى ضم هؤلاء تقوم على إقناعهم بأنهم فى أشد الحاجة إلى تنظيم أنفسهم لدرأ خطر المؤامرات التى يدبرها لهم الأساتذة الأقباط فى الكلية. ويقول سعيد: «بالرغم من سذاجة هذا الكلام وسخافته، إلا أنى وجدت، ولدهشتى، أن الكثيرين خاصة من أبناء فقراء المدن على استعداد لتصديقه».

وعندما يغادر رشدى سعيد الجامعة عام 1968 ليعمل رئيسا لمؤسسة التعدين والأبحاث الجيولوجية، يحرز تقدما مذهلا، ورغم ذلك تنتقل تهمة التعصب معه وتلاحقه دون أن يدرى، وهاهى التقارير السرية تتراكم فى أدراج مكاتب الأجهزة والوزير المسئول عن المؤسسة، وبعد سنوات طويلة يكشف له المهندس على والى وزير الدولة للبترول عن جانب من هذه التقارير، فيكتشف أن الذين دأبوا على كتابتها هم أنفسهم الذين كانوا يمتدحونه ويتملقونه بشكل مقزز، كما يكتشف أن كل التقارير دون استثناء استندت إلى واقعة غريبة رصدتها الأجهزة واعتمدت عليها فى وصفه بأنه من الأقباط المتعصبين!.

والواقعة كما يرويها رشدى سعيد حدثت عندما اكتشفت الأجهزة أن شقيقه الذى يصغره بعامين تزوج من مسلمة وأعلن إسلامه عام 1949، وهو الأمر الذى لم تقبله العائلة وحاولت منعه مما أحدث قطيعة بينها وبينه، وعلى الرغم من أن سعيد كان فى بعثة علمية آنذاك فقد اعتبرت الأجهزة هذه الواقعة دليلا على تعصب عائلته.. وهو يقول: عدت من بعثتى بعد سنتين من أحداثها.. وحاولت أن أعيد الصلة مع شقيقى.. إلا أنه صدنى وأبلغنى بأنه قطع كل صلة بماضية.. وقد احترمت رأيه ولم أره بعد هذه المقابلة الوحيدة غير مرة واحدة وعلى باب منزله ليلة وفاة أمى عام 1952 لأرجوه أن يحضر جنازتها.. ولكنه قابلنى على باب شقته.. وأخبرنى أنه يفضل ألا يحضر جنازتها. وهكذا انتهت علاقتى بشقيقى ولم أسمع عنه شيئا حتى وفاته التى وقعت على وقع الصاعقة، وأنا أقرأ نعيه فى صفحة وفيات جريدة الأهرام سنة 1986، وأنا جالس أحتسى القهوة وأقرأ الجريدة بأحد مقاهى مدينة برلين».

هل هناك ماهو أوجع من ذلك؟!.. ربما كان وجع فقد الشقيق بهذه الطريقة هو أفدح الوجع، ولكن استخدام هذه الواقعة الأليمة من جانب المقاولين والأساتذة والخبراء المرتشين والزملاء المنافسين، ظلت شبحا يطارد هذا العالم الفذ ويقصيه بعيدا عن دوائر «التفكير والتنفيذ»، حتى ينفرد المتربصون والفاسدون بثروات مصر التعدينية، وحتى يراكموا من وراء استثمارها الجائر مليارات الدولارات، ولكنه قبل أن يغادر هذا العالم عام 2013 كان على يقين من أن أرفع جامعات العالم المتقدم وأكاديمياتها البحثية فى علوم الجيولوجيا والمياه والسدود والثروات التعدينية قد ربطت اسمه مرة واحدة وإلى عشرات السنين المقبلة باسم جيولوجية مصر ونيلها الخالد.

رابط دائم: 
اضف تعليقك
البريد الالكترونى
الاسم
عنوان التعليق
التعليق