رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

الخروج من الماضى إلى المستقبل

أحيانا مثل كثيرين تنتابني موجات من التفاؤل التي تصل بي إلى السماء والتشاؤم الذي يأخذ بي ساقطا من حالق؛ الأولي تأتي عندما أشاهد عمليات التنمية التي تجري في البلاد وتخاطب المستقبل، والثانية تحل لحظة الاستماع إلى أفكار وسلوكيات وشعارات تأخذنا إلى الماضي. المستقبل نصنعه الآن بمن يسقطون ضحايا الإرهاب، ومن يقدمون العرق والدماء أحيانا إلي أكبر عملية للتغيير الجغرافي والديمغرافي الذي عرفته مصر في تاريخها المعاصر. عشت الزمن الذي غنينا فيه لبناء السد العالي، وكيف سيولد الكهرباء الذي ستصل إلى كل منزل، وتشغل كل المصانع؛ والآن فإن حجم الكهرباء الذي تعرفه مصر يكافئ مجمعا من السدود العالية. وهكذا أمور من المتاحف إلى المدن؛ ومن وادي نهر النيل الضيق إلى ساحات مصر الواسعة علي بحار وخلجان عاشت تاريخها في وِحدة إلا من ندرة بشرية. كما أعيش الزمن الذي انطبقت عليه كلمات نزار قباني التي نعي بها كارثة يونيو عن كلامنا المثقوب كالأحذية القديمة، حينما تحل علينا مناسبة عرضية فتتطاير الأقوال والتحليلات كما لو أننا لم نغادر أزمنة قديمة بعد، ولا تعلمنا من دروسها القاسية التي دفعنا ثمنها غاليا في الماضي والحاضر، والمؤكد لدي أنه لا يجب أن يدفعها المستقبل أيضا. المسألة هي ببساطة أن الستينيات من القرن الماضي قد صارت بعيدة عنا بنصف قرن، وخلالها لم تعد أرض مصر محتلة، ولدي المحروسة أكبر المشروعات الآن للعبور إلى سيناء بأكبر عملية تعمير وبناء عرفها التاريخ المصري منذ وحد مينا نارمر القطرين. والحقيقة هي أنه ليست مصر وحدها التي تتغير، وإنما العالم كله، والمنطقة، وصدق أو لا تصدق الفلسطينيون أيضا سواء في ذاتهم أو علاقتهم بإسرائيل أو ببقية العرب. لم يعد لا الاتحاد السوفيتي موجودا، ولا الحرب الباردة مستمرة، وحتى خرجت بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وصعدت الصين والهند، أما الولايات المتحدة فقد تغيرت مكانتها من العظمي والوحيدة إلي دولة كبيرة لا يعرف أحد إلى أين سوف تنتهي إلي العظمة أو إلى قيادة العالم أو الخروج منه.

إقليمنا العربي والشرق أوسطي تعرض لخلل كبير عقب الأحداث التي جرت في مطلع العقد الماضي وعرفت زورا بالربيع العربي؛ وكان ثمن الخلل الكبير توحش كل دول الإقليم: إيران وتركيا وإسرائيل وإثيوبيا. كانت لحظة من الخبل الإقليمي الذي قادنا إلى صراعات وحروب أهلية وإرهاب وهيمنة تيارات فكرية تنتمي إلى العصور الوسطي. الناجون من العاصفة كانوا الملكيات والإمارات العربية؛ ونجحت مصر بسرعة في عكس الجائحة السياسية خلال عام، ومع دول عربية أخري دخلت في عملية إصلاح عميق يبدأ بالبنية الأساسية ولا ينتهي بإصلاح الفكر الديني. النتيجة كانت دمارا كبيرا لدول تمثلها حاليا سوريا، دولة الصمود والتصدي التي انتهت تقريبا إلي دولة يحتلها ويحكمها الإيرانيون والروس والأتراك، واليمن ليس مختلفا كثيرا حول هذه الصيغة، بينما ليبيا تحاور الزمن بحثا عن فرص للبقاء موحدة. مساحة الكتابة لا تكفي لكثير من التفاصيل الضرورية، ولكن الثمن فادح من دماء وهدم، والبشري فيه أن القيادات ليست ساكنة، هي تحاول البناء والتغيير والتحديث من ناحية، وإعادة تركيب الواقع الإقليمي مرة أخري بحيث يكفل توازنا جديدا للقوي يدفع العدوان بعيدا، وربما يعطي فرصة للتنمية الاقتصادية. وضمن هذا الإطار فإن البصر والبصيرة، وضرب بلدان عربية بالصواريخ والقنابل المسيرة، والقضاء على استقلال ووحدة بعضها، رتب علاقات جديدة ومختلفة مع إسرائيل.

الفلسطينيون أنفسهم تغيروا بأكثر من طريقة، وحتى قبل الربيع العربي المزعوم كان الانقسام الفلسطيني بين دولة غزة، ودولة رام الله، وعاملهم العالم من زاوية العون والغوث على هذا النحو. وبينما وثقت الدولة الأولي علاقاتها بكل أعداء العرب، فإن الثانية التي أبقت على الود العربي فإنها دخلت في أكبر عمليات الاعتماد المتبادل بينها وبين الدولة الإسرائيلية. في فلسطين لا يقولون علي، ذلك تطبيعا وإنما علاقات طبيعية لها أصول قانونية في اتفاقيات أوسلو، واتفاقيات باريس لإنشاء اتحاد جمركي بين فلسطين وإسرائيل، وبينهما توجد عملة مشتركة (الشيكل)، و175 ألف فلسطيني ينطلقون كل صباح للعمل في إسرائيل من الضفة الغربية، ونظام جمركي وضرائبي موحد تجمع أمواله إسرائيل وتمنحه للفلسطينيين كلما كان سلوكهم مقبولا. وفي غزة ورغم الكلمات الكثيرة المثيرة لرضاء الأتراك والإيرانيين، فإن بقاء الأوضاع هادئة استلزم اتفاقا إسرائيليا فلسطينيا لمد غزة بالكهرباء وإتاحة المزيد من الفرص لصيد السمك في البحر المتوسط.

سوف أترك جانبا ما فعلته حماس بمصر من تثقيب للحدود أو تقديم العون للإرهاب عبر أنفاق تحفر لنقل السلاح والتجارة وجلب منافع الجمارك والرسوم؛ وذلك لأن مصر حاليا ورغم كل شيء تسعي للمصالحة بين فتح وحماس بعد أن حملوا الأمر كله إلى تركيا وعادوا به مرة أخري كما كان. ومع ذلك فإن القول بصواب القضية الفلسطينية وحقوق الفلسطينيين المشروعة عادل وأخلاقي وإنساني في رفض الاحتلال واستمراره، ولكن ذلك لا يعني أبدا جلد الذات وعقاب كل من صادف إسرائيليا أو تعامل معه كما لو كان مؤيدا للاحتلال أو الدولة العبرية. هل من حق النقابات المهنية أن تتحول إلى أحزاب سياسية وتقر لأعضائها ما تراه السلوك السياسي السليم، قضية تستحق البحث والتقدير، ولكن ما لا يستحق هو تجاهل التغييرات التي جرت وتجري، والمدي الذي تؤثر فيه في التجربة المصرية الراهنة للبناء والتعمير، وأخذ الإقليم كله بعيدا عن الهاوية التي ذهب إليها قبل عشرة أعوام وما زالت بعض دوله واقعة في الحريق الذي قاد إليه. التغيير الذي جري في العالم وفي الإقليم وفي مصر لا يغفر أن تكون خلاصة المجتمع المدني المصري أسيرة شبكات التواصل الاجتماعي ليس فقط في صوره وكلماته، وإنما أكثر من ذلك مراهقته السياسية وسخافاته الفكرية وسذاجته التاريخية. هل نحتاج جميعا نوبة صحيان علي ذلك التغيير الذي يحيط بنا، ويطرح علينا الكثير من المخاطر التي علينا تجنبها، والفرص التي من واجبنا انتهازها؟.


لمزيد من مقالات ◀ د. عبد المنعم سعيد

رابط دائم: