رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

ثقافتنا أم ثقافتهم؟

منذ أن أطلق المفكر الكبير الراحل جلال أمين سؤاله الشهير: ماذا حدث للمصريين؟ عبر تأملاته فى تغير أحوال المصريين منذ منتصف الأربعينيات من القرن العشرين إلى سنوات التسعينيات ونحن مازلنا إلى يومنا هذا نبحث عن إجابة للسؤال الصعب الشائك.. السؤال نعيد طرحه هنا فى هذه السطور بعد مرور ثلاثين عاما على تلك التأملات.. متغيرات عديدة سادت فى حياتنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية نتج عنها لغة جديدة لم تكن سائدة فى حياة بلادنا من قبل بمثل هذه الحدة: لغة العنف والتطرف.. غياب المحبة ومشاعر التسامح وقبول الآخر.. تراجع التفكير العقلانى والعلمى.. انتشار الفتاوى الدينية الغريبة.. وعلى المستوى الاجتماعى والأسرى تباعدت المسافات بين الأهل والأصدقاء وصارت هناك فجوة عميقة فى مجتمعنا.. ليطرح السؤال نفسه مرة أخرى ربما بصياغة مختلفة وإن كانت تحمل نفس الشعور بالمرارة والإحباط: كيف وصلنا إلى هذا الحد من تردى أوضاعنا؟ 

حسناً، للإجابة عن هذا السؤال يجب علينا أن نعود قليلاً إلى الوراء.. إلى مطلع القرن الفائت.. كانت مصر آنذاك تحمل ملامح مختلفة عن تلك التى نشاهدها الآن.. كانت هناك ثقافات متعددة.. وديانات وأعراف مختلفة.. تعيش جميعها فى وئام وسلام.. تتجاور جنباً إلى جنب.. وتشهد مدينة الإسكندرية الكوزموبوليتانية على ذلك.. هذه المدينة الفريدة التى احتضنت فى أرضها ورمالها وبحارها أجناسا أجنبية عديدة عاكسة معها تنوعا فكريا وثقافيا مميزا.. 

حقاً لم يكن هناك تداخل بين الثقافات.. ولكن فقط تجاور سمح ورحب يتيح معه هذه الحالة من التعايش السلمى دون أى تعصب أو انحياز. 

وبدأ دور التعليم يبرز فى تطوير ثقافة الناس.. لم يعد نظام الكُتّاب كافياً.. هذا النظام التعليمى التقليدى الذى لا يتماشى مع متطلبات العصر الحديث، إذ كان مقصوراً على التعليم الدينى ومبادىء القراءة والحساب.. كانت مصر بحاجة إلى تغيير وجهها وملامحها.. بحاجة إلى كوادر تبنى مجتمعها الجديد: أطباء.. مهندسين.. مدرسين.. محامين.. مترجمين.. معماريين.. إلخ. وتكونت مع مرور السنوات ملامح مصر الحديثة.. وأسهم فى هذا التحول الثقافى الكبير ازدهار الأدب وانتشار السينما والمسرح والموسيقى.. وهذا الأمر غيّر بالتأكيد من ثقافة الناس العادية.. حدث نوع من الانفتاح  فى الحياة الاجتماعية.. انفتاح رحب يسمح بقبول الديانات الأخرى والثقافات المختلفة جنباً إلى جنب مع ثقافتنا العربية الشرقية.. لم يكن هناك أى استعلاء على تلك الثقافات.. لم تكن هناك تلك الأفكار التى صارت شائعة اليوم فى وجدان البعض: ثقافتنا أولاً.. أو تراثنا وهويتنا فى المقام الأول ولايهم تراث الآخر.. كما لو كنا فى حرب ضروس مع الثقافات الأخرى.

كان هذا التجاور يتم بشكل تلقائى وسلس.. دون افتعال.. دون الحديث عنه ليلاً ونهاراً.. إذ إنه من الطبيعى أن نهتم بثقافتنا وتراثنا مع الترحيب بالثقافات الأخرى وتقبلها والاستفادة منها.. نسيج مجتمعنا المصرى يحمل فى خيوطه تلك الثقافات الأجنبية التى عاشت طويلاً فى أرض الوطن.. فلم إذًا هذا الاستعلاء وذلك النكران؟

لا نستطيع أيضاً مهما فعلنا أن نتمسك بثقافتنا بكل مفرداتها القديمة العتيقة خاصة فى مجال السلوكيات والممارسات الاجتماعية والعادات والقيم.. إلخ. فكثير منها يختلف ويتغير بحكم مرور الزمان.. وما كان مقبولاً فى السابق صار مرفوضاً اليوم.. وماكان غير معروف أو مطروح فى الماضى أصبح أمراً عادياً ومألوفاً فى كل المجتمعات.. الأمثلة عديدة نراها ونعايشها فى حياتنا اليومية، نذكر منها على سبيل المثال: تعليم البنات.. نزول المرأة للعمل فى مختلف الميادين.. استقلال الأسر الشابة عن البيت الكبير.. اهتمام المواطنين بالسياسة والشأن العام.. إلخ.

أمر آخر مهم نشير إليه هنا فى هذا المقال وهو أن المبالغة فى الاعتزاز بالثقافة الخاصة تعطل النقد الذاتى وتؤدى أيضاً إلى رواج نظرية المؤامرة: فكرة أن العالم الغربى يريد بنا شراً وعلينا أن نواجهه ونحاربه ووسيلتنا فى ذلك التمسك بثقافتنا حتى إن كانت تخالف مقتضيات العصر، تلك هى الفكرة الخاطئة الشائعة.

ونشير هنا أيضاً للدور الذى يجب أن تلعبه الثقافة فى حياتنا.. إذ إن تطور العالم اقتصادياً وتكنولوجياً يطرح تحديات عديدة، وأحسب أن دور الثقافة هنا هو مواكبة العصر ومواجهة هذه التحديات الجديدة التى لم تكن معروفة من قبل فى حياتنا... مواكبة العصر سادتى لا تعنى بأى حال من الأحوال التخلى عن ثقافتنا واستعارة ثقافة جاهزة من بلد آخر، لكنها تعنى فى المقام الأول أن نطور ثقافتنا من داخلها.. ونتخلى عن تلك الأنماط القديمة التى لم تعد مناسبة للعصر، وذلك عن طريق الانفتاح على ثقافات جديدة..يمكننا أن نعى ذلك لو قارنا بين الثقافة المنتشرة اليوم فى اليابان أو الصين بالثقافة التى كانت موجودة عندهم فى بداية القرن العشرين، سنجد تغييراً هائلاً مما يشهد على مرونة التعامل مع مفردات الثقافة فى هذين البلدين..  

هل بإمكاننا أن نمسك بطرف الخيط من هذه النقطة تحديداً؟ أعنى أن نكف عن  ترديد تلك النغمة العاطفية التى تعزز من الفكر الانغلاقى بحجة التمسك بالهوية والثقافة الشرقية فى مواجهة ثقافات معادية؟ وألا نعتبر كل من يدعو إلى الانفتاح الفكرى خائنا للوطن؟   

إن الانغلاق على الذات.. على الثقافات المحلية لا يضرنا فحسب، بل يحرم أيضاً الثقافات الأخرى من التعرف على الجوانب الجميلة فى ثقافتنا.. أليس كذلك؟


لمزيد من مقالات ليلى الراعى

رابط دائم: