-
الفقر والغِنى والظلم والعدل والإفساد والإصلاح قضايا محورية فى مشروعه ذى الألف صفحة
-
مناقشات وسجالات - على الهواء- فى مؤتمر الجمعية الفلسفية حول كتابه الأخير «التفسير الموضوعى للقرآن الكريم»
-
المفكر الكبير: اجتهدت لبناء رؤية إسلامية للتعامل مع الواقع.. وأبتعد عن الإعلام كى لا أتعرض للتكفير
يبدو الصحفى الذى يقرر الكتابة فى موضوع فلسفى كمن يسير على حد السيف، أو خط النار، فهو - من جهة- يسعى إلى إقناع قارئه العادى بأهمية وجاذبية الموضوع، كى لا يفقده حتى آخر سطر، ومن جهة أخرى يريد أن يثبت للقارئ المتخصص أن الكتابة الصحفية تصلح وسيطًا أمينًا بين الفيلسوف والمجتمع، فتقرب هذا من ذاك، دون أن تتسبب فى تسطيح الفلسفة أو تكفير الفيلسوف.. وما أصعبها من مهمة!.
..........................
والصعوبة تكمن فى التناقض بين واجبات الصحافة ولوازم العلم؛ فالصحافة من واجباتها الكشف والإفصاح، والعلم من لوازمه أنه ليس كل ما يُثار فى مجالس المتخصصين يصلح لإطلاع عامة الجمهور عليه، ولكن ما العمل إذا ما كانت الجمعية الفلسفية المصرية قد اختارت أن تبث مؤتمرًا علميا حول كتاب مهم لمفكر مهم بثًّا حيا مباشرا «لايف» عبر صفحتها على موقع «فيسبوك»؟!. سنحاول إذن أن نسعى إلى منزلة بين المنزلتين، عبر الجمع بين تناقضات الأدوار، والتوفيق بين خصوصية الفكر وأفهام الجمهور، وعلى الله قصد السبيل.
حسن حنفي.. تصلح هاتان الكلمتان وحدهما عنوانا لموضوع صحفى أو مقال، فهو المفكر الكبير، أستاذ الفلسفة، بل أستاذ أساتذتها، الذى أمضى 60 عاما من عمره البالغ الآن 85 - أبقاه الله- فى البحث والتفكير والدراسة والتدريس والتأليف، صاحب مشروع فكرى كبير يحمل اسم «التراث والتجديد» يشمل 3 محاور، كل منها صدر فى عدة مجلدات، وسُوِّدتْ فيه آلاف الصفحات، وهو مازال حتى يومنا هذا يلقى بأحجاره فيحرك المياه الراكدة، مثيرًا الجدل حول آرائه وأفكاره، بما فى ذلك كتابه الأخير «التفسير الموضوعى للقرآن الكريم»، حتى استحق الدكتور حسن حنفى فى عصرنا هذا أن نقول عنه كما قيل فى المتنبى قديمًا؛ إنه ملأ الدنيا وشَغَلَ الناس.
لكن الناس الذين نقصدهم، إنما هم أهل الاختصاص، أما الناس العاديون، الذين يغدون فى الحياة ويروحون، ترهقهم المعايش ويبحثون عن حلول للمشاكل اليومية، فإنهم - غالبا- لا يعرفون حسن حنفي، رغم أنه لم ينفصل يوما - بفكره وفلسفته- عن كل ما يشغلهم، من الغِنى والفقر، العدل والظلم، الثورة والإصلاح، السياسة والفن.
وهو أيضا لم ينفصل قط عن تلاميذه وواقعهم؛ أساتذة وطلابا منذ مايقارب نصف قرن وها هو الآن - أيضا- فى نوفمبر 2020، يبادر بدعوة زملائه وطلابه من الأساتذة لبحث ومناقشة كتابه الأخير، فى الجمعية الفلسفية المصرية، مع أنه كان يتمنى أن يطول العمر بمفكر كبير آخر هو الدكتور محمود حمدى زقزوق وزير الأوقاف الأسبق كى يسعى فى تنفيذ وعده بمحاولة إجراء ندوة لمناقشة الكتاب داخل هيئة كبار العلماء فى الأزهر الشريف، إلا أن القدر لا يمهله. لكن.. أكان يمكن أن ينجح المسعى ويقبل الشيوخ مناقشة أفكار الفيلسوف؟! على أى حال، لم يعد هذا الوقت مجال السؤال. ويعهد الأستاذ إلى الدكتور محمد صالحين أستاذ العقيدة والفكر الإسلامى بمسئولية تنسيق أعمال مؤتمر الجمعية الفلسفية حول كتابه، دون أى اشتراطات أو محاذير حول المدعوين من الأساتذة، أيا تكن اتجاهاتهم وأفكارهم، عدا شرط وحيد، هو ألا يُكفِّره أحدٌ أو يُفسِّقه.
ويفتتح الدكتور مصطفى النشار رئيس مجلس إدارة الجمعية الفلسفية أعمال المؤتمر، فى بث حى مباشر على «فيسبوك»، بتأكيد أن حسن حنفى يمثل علامة فارقة فى الفكر المصرى والعربى والإسلامى المعاصر، وأنه يكاد يكون الشخصية الأهم التى تمثلنا فى كل أرجاء العالم فى مجال الفلسفة الإسلامية بحكم الكم الكبير من مؤلفاته الموجودة على رفوف المكتبات العالمية التى شاهدها الدكتور النشار بنفسه، كما يقول، مضيفا أن حسن حنفى هو امتداد للفلاسفة المسلمين الأوائل كالفارابى وابن سينا، وهو ما يظهر من مشروعه الكبير الذى يحمل اسم «التراث والتجديد»، بما يشمله من كتب مثل «من العقيدة إلى الثورة» فى خمسة أجزاء و«من النقل إلى الإبداع» فى تسعة أجزاء و«من النص إلى الواقع» فى جزءين كبيرين و«من النقل إلى العقل» فى خمسة أجزاء، وكتابه الأخير الكبير «التفسير الموضوعى للقرآن الكريم» الذى يزيد على ألف صفحة.
ويشير إلى أن ما لفت نظره فى كتاب حسن حنفى هو الاهتمام بالنقد الذاتى لمشروعه كله، فالمفكر الكبير ينقد ذاته قبل أن ينقده الآخرون، إذ يتساءل حنفى بنفسه فى خاتمة كتابه قائلًا: «هل نجح مشروع الإصلاح الذى قدمه (التراث والتجديد)؟»، ثم يجيب: «تزداد السلفية ويرتد الإصلاح.. مازال التراث فى الجانب المحافظ منه هو السائد، والتجديد محاصَر.. والناس لا تقرأ، والنخبة طويلٌ عليها - أى المشروع- فلم يبق إلا التاريخ، وصاحب المشروع راضٍ»، لذا فإن الدكتور مصطفى النشار يطالب حسن حنفى أخيرًا بـ «بيان ختامي» لمشروعه الضخم، يعرض فيه خلاصة فكره.
ويبحر الدكتور محمد صالحين منسق المؤتمر بين ضفتى الكتاب، فيقدم عرضا لأبوابه وفصوله وموضوعاته، قائلًا إنه سِفرٌ جليلٌ يهدى للباحثين الجادين مفاتيح سحرية لمئات القضايا الجديدة التى يدرسها من خلفية قرآنية فلسفية لغوية فقهية، لكنه يطلب إعادة النظر فى عنوانه، مقترحًا أن يكون هذا: «مركزية الإنسان والكون فى القرآن الكريم»، معللا ذلك بأن الكتاب ليس تفسيرا للقرآن، وليس بالطبع تفسيرا موضوعيا، لأن حسن حنفى لا يحدثنا عن الموضوعات، وإنما كتب رءوس أقلام فى كل الموضوعات سواء الكلية أو الجزئية.
وتصف الدكتورة يمنى طريف الخولى أستاذة فلسفة العلوم ومناهج البحث كتاب حسن حنفى بأنه استنطاق للقرآن الكريم، ليتلو علينا محكم آياته نص الواقع، إذ ينطلق الكتاب من قاعدة الأصوليات الدينية باحثا عن مدلول خطاب - أو تفسير- جديد للقرآن يطابق روح العصر ويلبى احتياجاته.
وتتواصل المناقشات والسجالات العلمية، فلا يعتبر الدكتور عرفات محمد عثمان أستاذ التفسير وعلوم القرآن كتاب حسن حنفى تفسيرًا موضوعيا للقرآن، بل يصفه بأنه معجم فلسفى مفهرس لألفاظ وموضوعات القرآن الكريم، معترضا على كثير مما جاء فيه من أفكار فى مجال العقيدة والشريعة، لكنه يرى أن الكتاب به جهد يحسب له ويحسب عليه.
وكذلك يرى الدكتور وجيه محمود أستاذ الدراسات الإسلامية أن الكتاب معجم قرآنى يجمع ألفاظ القرآن الكريم ويحللها، لكن بوجهة نظر ذاتية ومجموعة من الآراء الشخصية، قائلًا إن النظر العقلى فى القرآن واجب، لكن المقصود هو النظر المحكوم بقواعد الشرع ومقاصده، وأن العقل وسيلة من وسائل الهداية، لكنها وسيلة تحتاج إلى ضبط.
ويشتبك الدكتور خالد فهمى أستاذ الدراسات اللغوية علميا بشكل تفصيلى مع أفكار الكتاب، ومنها «فهم النص بالرجوع إلى النفس»، قائلا إننا أمام قراءة فلسفية فى القرآن، وأن الكتاب بقدر ما يثيره من جدل هو تجربة معتبرة لها ما لها وعليها الكثير من المؤاخذات، لكن صاحبها صادق التوجه والإخلاص فى محاولته، ولا ينفى قدسية القرآن.
وينتقل الحديث إلى المفكر الدكتور حسن حنفي، ليعلق على ما ورد فى الدراسات المعروضة حول كتابه، وذلك بعد كلمة قصيرة كان قد ألقاها فى بداية المؤتمر، لتأتى كلماته - فى البداية والنهاية- بمنزلة استعراض لرحلته وفكرته ومشروعه؛ ذلك المشروع الطويل الذى استغرق منه عمرا، وكان بمنزلة «بث حي» مستمر، فى الاشتباك مع قضايا الوطن وهمومه، مهما أثار من عواصف وزوابع، ومهما استتبع من اتفاق واختلاف.
يقول حسن حنفى إنه وجد أن التفسيرات التى لدينا للقرآن الكريم بدءا من الطبرى حتى سيد قطب؛ كلها تفسيرات طولية، كما يسميها، أى تبدأ بسورة الفاتحة وتنتهى بسورة الناس، طبقا لترتيب السور والآيات، ومن ثم فإن الموضوعات تتقطع وتتكرر، ولا يستطيع الإنسان أن يعرف ما هى النظرية الإسلامية فى موضوعات محددة، كالفقر والغِني، الظلم والعدل، الإفساد والإصلاح، لذا فقد أراد أن يقوم بتفسير عرضي، أى جمع السور والآيات المتعلقة بموضوع واحد، ثم تنسيق هذه الموضوعات فى نسق معين كما يفعل الفلاسفة، قائلًا: «هذه الموضوعات أحمل همها من عصرى ومجتمعي، ولذا حاولت أن أبنى رؤية إسلامية أيديولوجية، أضاهى بها الرأسمالية والاشتراكية وغيرهما من مذاهب فلسفية سياسية اقتصادية».
ويضيف: «رأيت أخيرا كتابا للمرحوم الشيخ محمد الغزالى بعنوان (نحو تفسير موضوعى للقرآن الكريم) ففرحت، لكننى وجدته أيضًا تفسيرا طوليا ابتداءً من سورة الفاتحة لعشر سور من القرآن، أى أنه لم يجمع الآيات حول موضوع واحد ولكن تكلم فى كل موضوع حين يظهر فى الآية أو السورة. وأخبرنى الدكتور محمود زقزوق رحمه الله أنه كانت هناك محاولات سابقة من جانب شيخى الأزهر السابقين محمود شلتوت ومصطفى المراغى للتفسير الموضوعي، لكن أحدا لم يتم مشروعه على الرغم من أنه كان يحمل هذا الهم».
ويقول: «الكتاب هو تتمة مشروع (التراث والتجديد)، وأعرضه هنا فى المستوى العلمى للمتخصصين، وهناك مستوى آخر للمثقفين، ومستوى ثالث للثقافة الشعبية، لذلك أبتعد عن الحديث عن المشروع فى أجهزة الإعلام التى كثيرا ما تطاردني، حتى لا يأتى صحفى غير متخصص فيكتب مقالا يُكفِّرنى فيه، ويأتى قاض محافظ فيحكم عليَّ بالكفر، فأهاجر وأغادر البلاد كما حدث لمفكرين آخرين».
ويوضح أن لفظ «العقل» ورد فى القرآن الكريم أكثر من ألف مرة، ولفظ «الإنسان» ورد نحو 65 مرة، ولم يرد لفظ «الحرية»، ثم يتذكر: «فى مؤتمر المبعوثين فى صيف 1966 طالبت جمال عبدالناصر بحرية الشعب مع الاعتراف بأهمية الإصلاح الزراعى والتصنيع والتأميم والإسكان الشعبي، فردَّ قائلا إنه يريد الخبز أولًا للشعب، وفى اليوم التالى رد عليه يوسف إدريس فى «الأهرام»: ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان».
ويؤكد: «إن الغرض من الكتاب ليس تفسير القرآن، وإنما بحث علاقة النص بالواقع، فلست أستاذا فى علم التفسير، لكننى أجمع بين هموم العالِم وهموم الوطن، وأنا كذلك منذ 60 عاما فى الجامعة أجمع بين العلم والوطن، ومع ذلك فإننى لم أسمع فى كل المناقشات حول الكتاب كلمة واحدة عن الفقر والغِني، عن الظلم والعدل، عن الإفساد والإصلاح، أو عن سكان العشوائيات مقارنة بالتجمع الخامس والقاهرة الجديدة. وقد دُعيت مرة لإلقاء محاضرة فى منطقة «قلعة الكبش» خلف السيدة زينب فذهبت، وكان عندى عربة بسيطة اشتريتها فى بداية حياتي، فقام لى أحد الحاضرين قائلا: أنت يا دكتور تتكلم فى الفقر وأنت لديك عربة، فاصمت ولا تتكلم حتى تبيع هذه العربة وتوزع ثمنها على الفقراء، وعندئذ أصابنى الحرج والله، وشعرت بأننى مثقف يتكلم ولا يفعل بما يقول».
وبذات طريقته فى طرح الأسئلة لشرح أفكاره يختتم قائلًا: «أنا لا أفسر النص.. لكننى أردت فقط أن أبيِّن هل هذا النص يعبر عن صرخاتى الحالية.. هل أنا قادر على أن أقرأ نفسى فى النص؟.. هل هو مرآة لذاتي؟.. هل هو أيام حياتي؟.. أم أننى فى جانب والنص بين اللغويين والفقهاء والفلاسفة والصوفية فى جانب آخر؟.. وأنا أقول إننى اجتهدت لكننى لست ضامنا مدى صحة اجتهادي، ومع ذلك فللمخطئ أجر وللمصيب أجران».
وهكذا... كان هذا هو اجتهادنا أيضا؛ اجتهاد الصحفى لنقل فكر الفيلسوف. هدفنا أداء رسالتنا، بلعب دور الوسيط بين المفكر والمجتمع، دون إفراط أو تفريط؛ دون إفراط فى نقل تفاصيل مناقشات العلم إلى العامة، بما قد يستتبع التكفير والتشكيك، ودون تفريط فى تقديم أقرب صورة ممكنة للعلم، لعل هذا يستجلب الرغبة لدى البعض فى الاستزادة من المعرفة، والمعرفة متاحة على كل حال لمن يريد، وكل ما عرضناه من مناقشات وأكثر بكثير متاح للمشاهدة على صفحة «الجمعية الفلسفية المصرية» على موقع «فيسبوك». هكذا جاء اجتهادنا الصحفى حول مفكر كبير، ملأ الدنيا وشَغَلَ الناس، لعلنا نصيب ولو أحد أجريْ المجتهد.
رابط دائم: