رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

شعر الحب فى الثقافة العربية

أقول شعر الحب ولا أقول الغزل لأن التعبير الفنى عن الحب أوسع نطاقا من الغزل (أو التشبيب بالنساء), فهو يتضمن بالإضافة إلى ذلك أشكالا أخرى مثل قصائد المتصوفة فى مجال التعبير عن الحب الإلهي. وإذا تقرر ذلك، فيبدو لى أن شعر الحب يحتل فى نطاق الثقافة العربية مكانة رفيعة وفريدة لا يكاد يكون لها نظير فى الثقافات الأخري. فلست أعرف ثقافة غير الثقافة العربية فرضت على الشاعر منذ بداية الشعر العربى المعروفة ولزمن طويل أن يستهل قصيدته أيا ما كان موضوعها بالتغزل والوقوف على أطلال الأحبة. ولقد استمر العمل بهذا العرف طيلة قرون. فهو لم يفقد سطوته حتى بعد أن تمرد عليها أبو نواس بقوله: صفة الطلول بلاغة القدمِ/ فاجعل صفاتك لابنة الكرمِ. ومن المعروف أن أبا نواس ظل هو نفسه يتشبث بأهداب ذلك العرف. فهو يقف على حانة خلت من روادها عندما يقول: ودار ندامى عطلوها وأدلجوا/ بها أثر منهم جديدٌ ودارسُ. وهو يستهل إحدى قصائده بقوله: أجارة بيتينا أبوك غيورُ/ وميسور ما يرجى لديك عسيرُ. ويقول أيضا فى نفس القصيدة: تقول التى من بيتها خف مركبي/ عزيزٌ علينا أن نراك تسيرُ. أما دون مصرٍ للغنى متطلبٌ؟/ بلى إن أسباب الغنى لكثيرُ. بل ان لذلك التراث امتدادات فى شعر القرن العشرين. فشوقى يستهل قصيدته نهج البردة, بقوله: ريمٌ على القاع بين البان والعلم/ أحل سفك دمى فى الأشهر الحرم/ رمى القضاءُ بعينيّ جؤذر أسدا. يا ساكن القاع أدرك ساكن الأجم. ومن الملاحظ أيضا أن معاصرنا صلاح عبدالصبور الذى كان من أوائل المتمردين على عمود الشعر وممارسى شعر التفعيلة، يستهل قصيدته : الملك لك بمخاطبة فاتنته.

ونحن نعلم أن أبا نواس قال قصيدته تلك فى مدح الخصيب أمير مصر.ولكن من الواضح الآن بعد أن عرضنا لقصيدة شوقى فى نهج البردة أن قاعدة البدء بالغزل لم تنج من تأثيرها قصائد الأغراض الدينية. فالشعر الذى قيل فى مدح الرسول أصبح يندرج فى إطار نهج محدد يبدأ بالغزل. وذلك هو النهج الذى ارتاده حسان بن ثابت عندما أنشد النبى قصيدته التى استهلها بقوله: بانت سعاد فقلبى اليوم متبول/ متيم إثرها لم يفد مكبول. ويقال إن النبى خلع على الشاعر بردته استحسانا، فكان ذلك تكريسا لمذهب فى المدائح النبوية، وهو المذهب الذى سار عليه فيما بعد شاعران هما البوصيرى وشوقي.

وقد يخيل إلينا لأول وهلة أن من شأن القول فى الرثاء استبعاد الغزل والحب. إلا أن قصيدة الشاعر الأموى جريرفى رثاء زوجته لا بد أن تبدد ذلك الوهم. يقول جرير: لولا الحياءُ لهاجنى استعبار/ ولزرت قبرك والحبيب يزار. فجرير لم يفته فى موقف الحزن أن يمجد جمال الفقيدة كما يلي: ولقد أراك كسيتِ أجمل منظر/ ومع الجمال سكينةٌ ووقار... وإذا سريتُ رأيتُ نارك نورت/ وجها أغر يُزينه الإسفار. صلى الملائكة الذين تُخيروا/ والصالحون عليك والأبرار.

والأمر نفسه يصدق على أشعار المتصوفة فى الحب الإلهي. فابن الفارض على سبيل المثال يبدأ إحدى قصائده بذكر الحب والخمر، فيقول: شربنا على ذكر الحبيب مدامة/ سكرنا بها من قبل أن يخلق الكرمُ. لها البدر كأس وهى شمس يديرها/ هلال، وكم يبدو إذا مزجت حلمُ. ولولا شذاها ما اهتديت لحانها/ ولولا سناها ما تصورها الوهمُ. ويقول الحلاج فى وصف حبه لله: أنا من أهوى ومن أهوى أنا/ نحن روحان حللنا بدنا... فإذا أبصرتنى أبصرته/ وإذا أبصرته أبصرتنا.

إن شعراء الحب العرب ركزوا على صفتين من صفات المرأة فى موضوع الغزل واتخذوا منهما نقطة انطلاق إلى مستويات عليا من السمو. وأعنى بذلك طيب الرائحة, وإشراق الوجه. ففى الحالة الأولى صار الشعراء يتغنون بريا الحبيبة أو نشرها كأنها زهرة ذائعة العطر.يقول عمر بن ربيعة: وبت قرير العين قضيت حاجتي/ أقبل فاها فى الخلاء فأكثر. هنيئا لأهل العامرية نشرها اللذيذ ورياها التى أتذكر. أما الصفة الأخرى التى استغلها شعراء العرب واتجهوا بها نحوالسمو فهى وضاءة وجه الحبيبة وإشراقه. فلقد مر بنا إشارة جرير إلى نار زوجته ونورها إذا أسفرت. وقد نذكر فى هذا الصدد قول المتنبي: أمن ازديارك فى الدجى الرقباءُ/ إذ حيث كنت من الظلام ضياءُ. ومن الواضح أن لهذه الصفة فى استعمالاتها الشعرية ارتباطات وامتدادات مثل اقترانها بما يبثه النور من مشاعر الأمن، والأنس، والطمأنينة. بل ان شاعرا مثل ابن العميد (القرن الرابع الهجري) يرى أن نور الحبيبة يشمل المحب بنوع من الرعاية والحماية. يقول: قامت على تظلنى من الشمس/ نفس أعز على من نفسي. قامت تظللنى ومن عجب/ شمس تظللنى من الشمس. ولقيام الحبيبة على عاشقها وهو أمر يؤكده الشاعر أمر له أهميته، لأن الشاعر حرص على تأكيده عن طريق التكرار. فهى فارعة الطول كالشجرة السامقة التى تمد غصونها كى يلوذ بها العاشق فتحميه من لظى الشمس السماوية.

إن شعر المستوى الحسى وشعر المستوى المعنوى أو الروحى يتقاطعان. فلقد رأينا كيف يرتفع المستوى الأول أحيانا إلى المستوى الأعلى. ولكن من المؤكد أيضا أن هذا المستوى الأخير يحيل بالضرورة إلى المستوى الأدنى. لأن المعانى الروحية يحتاج إدراكها إلى الاستعانة عن طريق الاستعارة والمجاز بالصفات المحسوسة والتجريد بداية منها. وقول الحلاج فى الحلول كما مر بنا قول مفهوم لأنه يستند إلى ما نعرفه نحن البشر العاديين عندما نحب. فنحن عندئذ ننجذب نحو موضوع الحب، وتثور بنا الرغبة فى الاقتراب منه غاية القرب والاتصال به على نحو وثيق لا حائل دونه، بل والاندماج أو الفناء فيه عند بلوغ ذروة المتعة. والأمر فى حاجة إلى مزيد من الدراسة والتدقيق. فما قلناه فيما يتعلق بشمول شعر الحب العربى وتقاطع أشكاله قد يوجد ما يشبهه فى أشعار الثقافات الأخري. ولا يستثنى من ذلك إلا سيطرة الغزل (التشبيب بالنساء) والتعبير عن الحب بصفة عامة على جميع أغراض الشعر, فهو عرف تنفرد به الثقافة العربية.


لمزيد من مقالات عبد الرشيد محمودى

رابط دائم: