بينما كان القرن التاسع عشر يلملم أوراقه، ولد في عامه الأخير بالإسكندرية سنة1900، الدكتور حسين فوزي، وبحسب شهادة ميلاده في 29 يناير، واستقبل الحياة وتعلم وعرف مع مطلع القرن العشرين.. هو إنسان أحب الفنون وتذوقها وبخاصة الموسيقي. وكان عازفاً قديرًا علي آلة الكمان يقرأ علي أوتارها نوتة الموسيقي الغربية. وقدم في برنامج الإذاعة الثاني منذ أواخر الخمسينات من القرن العشرين ما أطلق عليه «شرح وتحليل» لأهم الأعمال الموسيقية العالمية التي نعرف نحن العامة منها بالكاد كلمة «سيمفونية» وأحيانا «كونشرتو» وفي أحيان قليلة كلمة «سوناتا».. يشرح لمستمعيه القطعة التي يعرضها فيقدم مؤلفها وموضع المعزوفة من مؤلفاته ودرجات اللحن ومقامه ثم يسمعك جرعة بسيطة ويواصل الشرح آخذا بيدك خطوة خطوة حتي يصل بك إلي نهاية المعزوفة التي يقدمها.
....................
خذ مثلا علي ذلك وهو يشرح لبيتهوفن سيمفونيته الخامسة أو سوناتة اسمها «الباتيتيك»، وبالمناسبة هو لا ينطقها سيمفونية بكسر السين، وإنما يقولها دائمًا «سامفونية» ولا أعرف أهذا نطقها عند الأوروبيين أم هي إحدي خواص الدكتور حسين فوزي ـ وله خواص كثيرة في استخدام الكلمات سيأتي ذكرها ـ أو هو نطقها السليم.. المهم عند تعرضه لهذه السوناتة يضعها في موضعها من سوناتاته ثم يشرح الاسم وظروف كتابة بيتهوفن اللحن وطبيعته.. وأنقل جزءًا يسيرًا من تحليله: «هذه السوناته.. كادت شهرتها أن تقضي عليها لسهولة عزفها، وعبث الغلمان والبنات بها بلغوا في تعلم العزف علي البيانو مرحلة قصيرة، وكأن الشاعر يعني هذه السوناته إذ يقول:
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم بِهِنَّ فلول من قراع الكتائب
والكتائب هنا هي أصابع البيانو يضربون عليها بالحق والباطل وتمايل رأس العازف ونكش شعره في صور رومانتيكية حادة».. هكذا نقلك من جو الموسيقي إلي أجواء الشعر لعلها تقرب المسافة بين متذوقي الفنون.
ثم ينتقل إلي شرح معني الكلمة العنوان «الباتيتيك» فيقول إنها من كلمة «باتوس» المعروفة لدي دارسي الدراما في كتاب «فن الشعر» لأرسطو، وهي المعروفة في اللغة العربية بتعبير «المعاناة المستشفقة»، أو المثيرة للشفقة.
أما حسين فوزي فيقول إنها «المؤثرة» واستخدمها علم الطب في مادة «الباثولوجي»، أو علم الأمراض.
ويخلص إلي القول: «فالباتيتيك صفة لما يثير الأشجان، وعلي هذا فالسوناتا باتيتيك مثيرة للأشجان.. أما أشجان من؟ فإنها أشجان بيتهوفن نفسه الذي كان الصمم قد بدأ يصيبه وهو رجل مجتمعات مهنته صوتية بالأساس.
ولا شك أن حسين فوزي ترك أثره في جيل عاصره وفي أجيال جاءت بعده وأسعدها حسن حظها بالتعرف علي أعماله الباقية في برامج الإذاعة الثقافية وقنواتها.
لقد أخذني الحديث عن الموسيقي عشقه الأكبر قبل أن أكمل التعريف بالرجل وقدره وعلمه وفنه فأقول إنه درس الطب وحصل علي بكالوريوس الطب، ثم أتيحت له الدراسة بجامعة «السربون» وهناك حصل علي ليسانس العلوم، وتابع دراساته العليا في «علم الأحياء المائية» في جامعة «تولوز» فرنسا.. واشتغل عميدًا لكلية العلوم عام 1942 ثم مديرًا لجامعة الإسكندرية سنة 1945، وقد أهلته دراسته لعلم الأحياء المائية أن يشترك في أكبر رحلة بحرية في المحيط الهندي ضمن مجموعة السفينة «مباحث» ليكتب بعدها كتابه «سندباد عصري.. جولات في المحيط الهندي».. وقد اختار لمؤلفاته أن تكون تحت عنوان ثابت هو «سندباد» وربما يكون فعل ذلك ليعطي أعماله عراقة تاريخية كما في «سندباد مصري»، «سندباد في عصر الرينسانس»، «سندباد إلي الغرب»، «سندباد في رحلة الحياة»، «سندباد عصري»، «سندباد في سيارة»..ولا يصح أن نفهم من اختيار كلمة «سندباد» أن «حسين فوزي» كتب أدب رحلات سياحية أو أدبًا وصفيًا لمشاهدته، فالحقيقة أن رحلاته كانت «معرفية اكتشافية» سواء لخفايا المكان، أو لأسرار الزمن وتاريخه.. وما جري فيه، وما كتب عنه، وما قيل عن غرائبه.
هي كتب معرفية عميقة، مزج فيها معرفته بروحه المصرية الصميم، بوعيه بلحظة وجوده في حركة لا تنقطع للزمن.
أما روحه المصرية فتجرد شخصياته من بريق سلطانها وزخرفة؛ ليبقي منها مادتها الطبيعية التي يتعامل معها بلا أقنعة أو زيف أو بريق، بروح العالم في معمله، وحدس الفنان وإلهامه.
خذ مثلا ثلاثة أسماء وردت في سياق رحلاته في تاريخ مصر: «بنت الزمار»، و»أم خليل»، و»الصعيدية»، ولأن حسين فوزي لا يكتب تاريخا، وإنما يبحث في الماضي عن أحداث وشخصيات ملهمة دون مراعاة لتواتر الأحداث وتاريخها، فسأسمح لنفسي أن أقتطع مما كتبه بعض ما قال عن تلك الشخصيات المؤثرة في تاريخ مصر.
«بنت الزمار» هكذا وصف «كليوباترا» فمن أين جاءت التسمية؟
كان بطليموس الثالث عشر محبًا للعزف بالناي فلُقِّب بعازف الناي.. أما حسين فوزي فوضع للصفة عبقها المصري فأطلق عليه «الزمار».
يقول حسين فوزي: «كانت كليوباترة كاعبًا لا تقاوم، رآها قيصر في زهرة العمر تخرج رقيقة صغيرة من لفافة ملابس، فأعجب بتلك الغادة الساحرة، وما أظنه إلا وقد افتر ثغره عن ابتسامة، وهو يري أمامه ملكة مصر، وريثة عرش البطالسة والفراعنة، تخرج من بقجة!.. وتدور الأيام دورتها ويعلو نجم كليوباترة في الخافقين وتصير إمبراطورة علي أكبر إمبراطورية في عصرها وتدخل روما وشعبها منحنٍ لها وقد أمر القيصر إرادة قيصرية أن تكون كليوباترة «ملكة الملوك» وهو لقب لم يسبقها إليه امرأة.. ثم تدور دورة أخري فتدخل أسيرة ولكنها غير كسيرة لأنها فضلت الموت علي الذل.
يروي المؤرخ الروماني «بلوتارك» إحدي دعابات كليوباترا ذات النكهة السياسية. «أراد أنطونيوس أن يظهر لها براعته في صيد السمك، فأوعز إلي بعض الغواصين أن يشبكوا السمك في صنارته، كلما ألقي بخيطه في الماء. ولم تخف الحيلة علي الملكة، ودبرت له أمرًا.. وإذا به يسحب سنارته فتصيد.. فسيخًا! يضحك الجلف، ويقهقه الصحاب، وتقول الملكة: «خل عنك يا سيدي القائد، واترك لنا الخيط والصنار، أما أنت فليبق صيدك الملوك والمدائن والأقطار!».. ويعلق حسين فوزي علي مقولتها: «تقول له ذلك وهي تعلم أن أنطونيوس لم يعد أكثر من فرخ سمك في شِقّها، أو عجل بحر وقع في شراكها».
نترك كليوباترا لأمجادها وما تلاها من حوادث لنذهب إلي سيدة أخري يذكرها حسين فوزي فيما يشبه الغزل لقدرها ودورها السياسي والعسكري ورجاحة عقلها.. يقول: «أم خليل» ملكة المسلمين، عصمة الدنيا والدين، ذات الحجاب الجميل، والستر الجليل، والدة المرحوم خليل، زوجة الملك الصالح نجم الدين أيوب؛ مصرية بحياتها وسيرتها، ولكنها أصلًا مملوكة تركية أو أرمينية، أهداها الخليفة المستعصم بالله، آخر خلفاء بني العباس في بغداد، إلي الملك الصالح أيوب الذي أحبها وتزوجها».
تلكم هي «شجرة الدر» المرأة التي حكمت مصر في فترة من أدق وأخطر ما مر عليها في تاريخها.. ولكن.. هل كانت شجرة الدر تستحق كل الصفات التي أسبغها عليها الراحل حسين فوزي؟
أظن ذلك فقد كانت تشارك زوجها الملك الصالح وتقف بجانبه في القصر، وفي ساحة القتال. ولكنها انفردت وحدها بالقرار والحكم والمعارك تدور علي أبواب القصر، وقد فارق الملك الصالح الحياة. فقد أخفت خبر موته عن رجال الدولة وقادة الجيش، وكانت تستقبل رجال الدولة من وراء حجاب معللة أن السلطان به وعكة صحية.
أما ثالثة الثلاثة ممن تربعن علي عرش مصر فكانت «الصعيدية» «حتشبسوت، أو حتشبسو» بالتذكير كما كانت تحب أن توسم، فمعظم النقوش كانت تبدو فيها بزي الرجال إحساسا منها بحجم المسئولية التي تحملتها في ريعان شبابها، ويعبر عنها نقش مكتوب عليه:»وساست حتشبسوت، ابنة الرب، أمور الدولة حسب ما رسمت، وأحنت مصر رأسها تعمل من أجلها، تلك النطفة من صلب الرب» لقد كانت حتشبسوت الحبل الذي تعتصم به مصر السفلي، والعماد الذي تعتمد عليه مصر العليا، وكانت الدفة المستقيمة للدلتا، والسيدة التي تدبر الخطط، وتصدر الأوامر، فينزل السلام علي وجه الأرض.
ويقول عنها الدكتور حسين فوزي: «أحببت تلك الملكة المقدام، منذ زياراتي لها لأول مرة، في بطن الجبل، بطيبة المقدسة.
ودراستي المتمهلة لتصاوير البعثة البحرية إلي بلاد «بونت» تزين جدران «رائعة الروائع»، وذلك أيام كنت أعني بالبحر وأحيائه، فوجدت في تلك الصور المثل الفريد، في كل الآثار المصرية بقدر ما وصل إليه علمي بصور أحياء البحر، لا أحياء النيل، ولا أحياء بطائح الدلتا. أعجبت بتلك السيدة المسترجلة تمثل نفسها علي أثارها رجلا بلحية مستعارة ولحي الفراعنة كانت كلها مستعارة! وصدر منبسط مفلطح. وعرفتها أيام سلكت المرأة في أوروبا طريقها الوعر نحو مزاحمة الرجل، فجزت شعرها «ألاجارسون» وفلطحت صدرها، وكشفت عن ركبتيها، ودخنت السجائر في المحال العامة، ولعلها تدخن يوما الغليون والسيجار..» وختم حديثه بتوجيه نقد هادئ لنساء اليوم قائلا:» وإني لأستغرب أن لا تعني سيداتنا المتحررات بأمر أول سيدة في العالم زاحمت الرجل، وغلبته، وذلك منذ نحو ثلاثة آلاف عام، تلك كانت سيدة الدير البحري، وصاحبة أعظم مسلات الكرنك، وأجمل حجراته «حتشبسوت».
ويبدو أن الدكتور حسين فوزي أحس بشيء من التأنيب أن يكتب عن حكام ولا يكتب عن الشعب، فقد كان يود أن يكتب «شعب نامة، لا شاه نامة» أي ملحمة الشعب لا ملحمة الملوك.. ولذلك يقف وقفة خاطفة أمام هذا الشعب.. تحمل الكثير وفعل الكثير فجاءت كلماته البسيطة تحمل معان عميقة.. «ولولا الشيخ تقي الدين المقريزي، وابن تغري بردي، وابن إياس، والجبرتي» لما تصورنا هذا الشعب إلا في بؤسه وذله وشقائه. عندما أقف بحي الأزهر، أو تحت الربع، أو أجلس بباب حلاق بالحسينية، أو بالحنفي، أشاهد بياع البسبوسة يرجو جاره أن يحرس صينيته حتي يذهب ليتوضأ ويصلي في سيدي البيومي، أو في جامع الأشراف برسباي ويعود بعد هنيهة متهلل الوجه.. أتصور الشعب المصري.. بائع الحلوي والخراط والسروجي، والبزاز والعطار وصانع الخيام.. وعندما استمع إلي حديث أوساط الناس في أحيائنا الوطنية، أستعيد أيام طفولتي بينهم، فأفهم المعاني المستترة وراء لغتهم السمحة المهذبة من أمثال:
«يفتح الله» ومعناها: السعر الذي تعرضه غير مقبول و»صل عالنبي» أي فلتبدأ في الفصال و»عليّ الطلاق» أي لا تصدق كلمة مما سأقول! و»يا فتاح يا عليم» أي أول القصيدة كفر و»بعدها وياك، وربنا يكفينا شرك» «باسم الله» أي تفضل وشاركني لقمتي التي لا تكاد تكفيني و»أتوكل علي الله» أي أغرب عن وجهي من غير مطرود و»دستور إيه يا عم الله يخليك» أي شبعنا من هذا الكلام وأمثاله.. ويعلق: «هذه لغة شعب فيلسوف مسالم يتكلم بالكناية، وينادي علي سلعته بصورة شعرية مثل: «ياللي طاب، وطلب الأكال، يا بيض اليمام، يا ناعم!» وعند الغضب يتحول غضبه وقد طفح الكيل إلي التصريح «إيش تاخد من تفليسي يا برديسي»، «وإيش ياخد الريح م البلاط». ويمضي حسين فوزي في خطه المثقِّف لأمته بكتاباته ومؤلفاته ودعواته، فقد نادي في الخمسينيات من القرن العشرين بإنشاء إذاعة للثقافة فكان البرنامج الثاني الذي صار بعد ذلك البرنامج الثقافي والقناة الثقافية، ونادي بإنشاء جامعة للفنون ونجح في دعوته وأنشئت أكاديمية الفنون التي كان نواتها المعهد العالي للفنون المسرحية، ثم اتسعت معاهد الأكاديمية بظهور معهد السينما، ومعهد الباليه، ومعهد الكونسيرفتوار، ومعهد التذوق الفني، بل إنه صار أول رئيس للأكاديمية بين عامي 1965 ، 1968 وبعدها أنتخب رئيسًا للمجمع العلمي المصري عام 1968، حصل علي جائزة الدولة التقديرية عام 1966، ووافته المنية في أغسطس عام 1988 مخلفًا ثروة فنية وأدبية وعلمية تثري الأجيال.
رابط دائم: