رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

العلمانية وأفق الإصلاح

حينما ننظر عبر تاريخنا المعاصر إلى تدخلات الدولة وردود أفعالها تصيبنا الحيرة: أحياناً نشعر أننا فى دولة دينية تقيم تمييزاً بين المواطنين على هذا الأساس، وأحيانا أخرى نشعر أننا فى دولة علمانية حديثة الكل عندها سواء. وهذا الوضع الملتبس ليس عندنا فقط، وانما موجود فى كل البلدان العربية. وقد طرح المفكر عزيز العظمة سؤالاً: هل نحن نعيش فى دولة دينية تتخذ بعض المظاهر العلمانية تتجمل بها أمام دول الغرب، أم أننا نعيش فى ظل دولة علمانية تتمسك ببعض المظاهر الدينية لإرضاء الجمهور؟ وإجابته هى أننا نعيش فى ظل الحالة الثانية، فالدولة عندنا دولة علمانية بالضرورة، لأنها لا تستطيع أن تتعامل مع العالم المعاصر بنظمه الاقتصادية والمالية وقواعد الممارسة السياسية وأطره التعليمية والثقافية من خلال مفاهيم أو قوانين دينية موروثة. تبقى بعد ذلك بعض المظاهر التى تحاول الدولة من خلالها أن تبين للمواطنين أنها حريصة على الدين وخادمة له بحثاً عن الرضا الشعبى. 

وهذه الإجابة تتعارض مع مقولة شائعة روجها أنصار الإسلام السياسى تقول إن محاولات إدخال العلمانية قد فشلت، لأنها جسم غريب عن الأمة يهدف إلى إدامة تبعيتها للهيمنة الغربية. وهذا الرأى بالغ الخطأ لأن العلمانية فى جميع الثقافات مبدأ جديد لم تعرفه الانسانية عبر تاريخها الممتد، فهي إذن غريبة على كل أمة.العلمانية مبدأ يقوم على إعادة تنظيم العلاقة بين الدولة والمواطنين عبر السماح بحرية الرأى والاعتقاد من جانب، وتنظيم العلاقة بين الدولة والمؤسسات الدينية عبر اهتمام الدولة بتنظيم شئون الحياة الدنيوية وحسب من جانب آخر.

ظهرت العلمانية فى الغرب لتضع حدا لعقود من الحرب الأهلية بين المواطنين بسبب اختلاف العقائد ولضمان التماسك الاجتماعى الذى يسمح بتأسيس الدولة القومية. العلمانية لم تكن إذن نظاما اخترعه الغرب ليغرى به الدول الأخرى ويفرض هيمنته عليها، وإنما كانت نتيجة لبحثه عن حل لمشكلاته الداخلية، وكان الحل مجدياً وفعالاً مما دفع الثقافات الأخرى لاستلهامه، وهى ظاهرة شائعة وصحية. ولكن يرى أنصار الإسلام السياسى أن ما يعوق تبنى العلمانية فى بلادنا هو أن الناس ترفض العلمانية لأنها تفرض عليهم من أعلى. وفى الحقيقة العلمانية باعتبارها مبدأ لتنظيم العلاقة بين الدولة والمجتمع هى دائما تفرض من أعلى، فهى ليست رأيا ينبغى أن يقتنع به المواطنون أولاً، لكن هى الأساس الذى يسمح بأن يكون للمواطنين آراء حرة ومختلفة فى جميع شئون الحياة. كما أن السياسة السليمة تقوم على إنجاز ما يحتاج إليه الناس لا ما يريدونه، فأغلب أولياء الأمور يريدون أن تتراخى الرقابة حتى يتيسر لأبنائهم الغش في الامتحانات، لكنهم يحتاجون لتشديد الرقابة ليصل الأكفاء إلى ما يستحقونه. فليس السؤال هل يريد الناس العلمانية أم لا، وإنما هل يحتاجونها أم لا؟.

أما عن الزعم شديد الخطأ وكثير الشيوع بأن العلمانية فشلت فى بلادنا فهو زعم يكذبه تاريخنا المعاصر. هذا التاريخ مملوء بالإنجازات والإخفاقات، وإذا بحثنا عن الإنجازات التى نتباهى بها نجدها قد جاءت جميعاً بفضل جهود العلمانيين. فإدخال التعليم العام الحديث، وإنشاء الجامعة الأهلية لم يكن تحقيقا للدولة الدينية وإنما اعتراف بقيمة العلمانية، وكذلك المحاولات الأولى لصياغة وثائق دستورية التى تكللت بإصدار دستور 1923 هى تعبير عن سعى من القوى السياسية بإعادة صياغة الإدارة السياسية للمجتمع طبقاً للقواعد العلمانية الحديثة، ونشأة مجلس النواب الذى يعنى انتقال فكرة الشرعية من الدين إلى الأمة، وإلغاء الجزية ووضع الذمي للمواطنين الأقباط، والحقوق التى حصلت عليها المرأة فى التعليم والعمل حتى صار دورها فى الحياة العامة فعالاً، ولا يمكن الاستغناء عنه. لم ينطلق كل ذلك من بواعث دينية، ولكنه كان تنفيذاً لمبدأ العلمانية. 

كان الفيلسوف الفرنسى جاستون باشلار يقول إن الإنسان يتحدث دائما عن الطبيعة وحينما ينظر حوله يجد مزارع ومصانع وسيارات ومساكن، أى أنه فى قلب عالم من صنعه. هكذا حالنا،فنحن ننظر إلى مجتمعنا ثم نتحدث بهدوء عن فشل العلمانية رغم أننا نعيش فى قلب مجتمع من صنعها. تبقى فرية أخرى ورائجة وهى أن رواد العلمانية قد تراجعوا عنها وعادوا للكتابة فى الإسلاميات مثل طه حسين ومحمد حسين هيكل وإسماعيل مظهر وهذا ليس صحيحاً فهم مؤمنون بدينهم من البداية وحتى النهاية ومعتزون بإسلامهم، وهذا لا يتعارض مع العلمانية بل هو تأكيد لها.

لا نقصد من ذكر هذه الحقائق أن العلمانية بخير والأمور فى بلادنا تسير على مايرام، ولكن كان الهدف هو الإشارة إلى تجاه الإصلاح عندما نلاحظ خللاً. العلمانية فى كل البلاد ليست نظاما مكتمل الصياغة يفرض مرة واحدة، لكنها أفق ينبغي دائماً  مواصلة السير فى اتجاهه.


لمزيد من مقالات د. أنور مغيث

رابط دائم: