خلال العقود الخمسة الأخيرة قامت الدولة بإنشاء العديد من المناطق الصناعية يبلغ عددها الآن 114 منطقة صناعية. ولم تضع الدولة مخططا لطبيعة الأنشطة التى تتم فى هذه المناطق، وإنما تركت هذا للمستثمرين. وبفحص طبيعة الأنشطة الصناعية لكل واحدة من هذه المناطق يتبين احتواؤها على تنويعات مختلفة من المشروعات والأنشطة، ليس بين أغلبها تكامل أو تضافر. ويعنى التكامل والتضافر هنا استفادة هذه المشروعات من وجودها فى منطقة جغرافية، واحدة لبناء تعاملات وعلاقات تعاونية فيما بينها، تحقق قيمة وفائدة لكل منها. وهذه العلاقات قد تكون أفقية، مثل تعاونها التجارى أو التكنولوجى أو تحركها معا لتحقيق مصالح مشتركة. وقد تكون هذه العلاقات التعاونية رأسية، من خلال توريد بعضها مستلزمات إنتاج مشروعات أخرى (التكامل الخلفي)، أو استخدام المشروعات لخدمات أو أنشطة تسويقية أو لوجستية مثلا تقوم بها مشروعات أخرى. ويتحقق هذا التضافر والتكامل فقط فى حالة ترابط وتكامل الأنشطة التى تقوم بها هذه المشروعات، بمعنى اعتمادها على بعضها البعض. ولأن فكرة التكامل بين أنشطة المشروعات بما يعنى أن يكون لكل منطقة صناعية هوية تحدد نوعية الأنشطة الصناعية والأنشطة المكملة لها لم تكن ضمن مخطط ومعايير إنشاء المناطق الصناعية وبالتالى معايير وشروط منح تراخيص المشروعات فيها، لذلك لم تحقق المناطق الصناعية تميزا اقتصاديا أو تنافسيا على غرار المناطق الصناعية التى تحمل هويات محددة فى البلدان الصناعية فى العالم.
ويطلق مسمى العناقيد الصناعية على المناطق أو المجمعات الصناعية التى تضم فى أغلبها مشروعات تتكامل وتتضافر أنشطتها. ويضم العنقود الصناعى مجموعة من الشركات والمنشآت تجمع بينها قواسم مشتركة، كاستخدامها تكنولوجيا وأساليب إنتاج متشابهة أو مسارات تسويق مشتركة أو متشابهة أو استخدامها عمالة وخبرات متماثلة، أو قيام روابط من التعاون الأفقى أو التكامل الخلفى والأمامى بينها، فضلا عن وجود مؤسسات داعمة لاحتياجاتها مثل مؤسسات الخبرة ومراكز الأبحاث والمعاهد والجامعات المتخصصة فى تلبية احتياجات المشروعات من المعرفة والمهن والمهارات. وقد نشأت العناقيد الصناعية فى الماضى بصورة طبيعية، حيث كانت المشروعات الجديدة تتجه الى المناطق التى تتوطن فيها أنشطة صناعية محددة. وكان فى مصر نماذج من هذه العناقيد، مثل صناعة الغزل والنسيج فى المحلة وشبرا الخيمة، وصناعة الأثاث فى دمياط، وصناعة الكليم فى أسيوط والسجاد اليدوى فى فوة ونجادة، وغيرها. لكن هذه العناقيد الصناعية، ما لبثت أن اندثر الكثير منها لغياب دعم الدولة لها، حيث اتجه هذا الدعم للمناطق الصناعية الجديدة التى أنشئت دون مخطط يقوم على إستراتيجية العناقيد الصناعية. ولا تقتصر العناقيد الصناعية على النشأة الطبيعية، وإنما يمكن أن تقوم وفق إستراتيجية ومخطط من قبل الدولة، يستند إلى دراسات متعمقة للمناطق الجغرافية المختلفة، وما تقدمه من مزايا ووفورات طبيعية، مثل توافر الخامات أو القرب من الموانى التصديرية أو وجود قوى عاملة مدربة أو وجود مخطط للتنمبة لمناطق معينة يتم فيها توفير الدولة للمرافق والبنية التحتية. وهذه المناطق المخططة التى تضم عناقيد صناعية مثلت الأساس فى النهضة الاقتصادية والصناعية لدول مثل الصين وكوريا الجنوبية واليابان.
وتهدف العناقيد الصناعية إلى تجاوز فكرة المناطق الصناعية، بحيث يتوافر تضافر وتكامل وتعاون بين المشروعات الصناعية والمنشآت التى تخدمها، وكذلك يتوافر مناخ من المنافسة البناءة التى تسعى لتحقيق التميز والتطوير وتحسين الإنتاجية. ويتم هذا من خلال مخطط يشجع تأسيس المشروعات التى يوجد بينها قواسم مشتركة فى منطقة واحدة، وبحيث توفر الدولة الدعم الذى يساعد فى تحسين الإنتاجية وتراكم الخبرات وتضافرها ومد هذه المناطق بالكوادر البشرية اللازمة ودعم الجهود والمشروعات المشتركة لتنمية الابتكارات الصناعية والتكنولوجية. فبدلا مثلا من دعم التصدير الذى ساد لعقود طويلة فى مصر دون جدوي، دون تحسين عوامله وأسبابه، فإن إستراتيجية العناقيد الصناعية تتجه وتستهدف توفير المناخ والبيئة التى تدفع لتحسين تنافسية وتعاون المشروعات فى الأسواق المحلية والخارجية من خلال تحسين الإنتاجية والتوافق مع الأسواق التنافسية وتنمية الابتكارات. وسيتطلب التحول من المجمعات الصناعية إلى العناقيد الصناعية توفير عوامل النجاح والتنافسية للمشروعات التى يضمها كل عنقود صناعي. وينبغى أن يضمن هذا فى دراسات ومخطط كل منطقة أو مجمع صناعى يضم عنقودا أو أكثر. ويعنى هذا دراسة النماذج المرجعية الناجحة فى العالم لكل نشاط أو عنقود صناعي. كذلك من المهم أن يخطط للعنقود بحيث يتوافر له المستلزمات والمدخلات اللازمة لنشاطه، وبحيث يتم تشجيع إنتاج هذه المستلزمات محليا. كما ينبغى أن يشمل هذا تشجيع ودعم وتنمية دور المشروعات الصغيرة لإنتاج المكونات أو الأجزاء التى تحتاجها المشروعات الرئيسة الكبيرة التى يقوم عليها العنقود.
سيعنى كل هذا أن تتبنى مصر إستراتيجية جديدة للتنمية الصناعية تقوم على فكرة العناقيد الصناعية التى تأخذ بها حاليا ومنذ عقود الدول المتقدمة وكذلك الاقتصادات الصاعدة. وسيعنى هذا أيضا وضع سياسات للتحويل التدريجى أو الجزئى للمناطق الصناعية القائمة لتشمل شبكات وروابط من العناقيد الصناعية. ويمكن القول إن الاستراتيجية المقترحة تتضمن طاقات وروافع تنموية قوية يمكن أن تنقل مصر فى خلال عقد من الزمان (إن أحسن تخطيطها وتنفيذها) نقلة تنموية واقتصادية كبرى من خلال إسهام العناقيد الصناعية المناطقية فى التنمية المستهدفة على المستوى القومى والمحلي.
لمزيد من مقالات د.أحمد صقر عاشور رابط دائم: