حصل أستاذنا في كلية العلوم في جامعة الإسكندرية على جائزة الدولة التقديرية في الأدب. وجهت الدعوة للضيف الكريم، العالم والأديب الدكتور يوسف عز الدين عيسى، وسألته قبل اللقاء عن مشاعره وتوقعاته قبل الجائزة وبعدها، وأرجأت سؤالا راودني لأسأله في الندوة. بدأت الندوة بالترحيب المعتاد، والحديث عن إنجازات الضيف الكريم، ثم سألته: أنت أديب تكتب القصص والروايات والمسلسلات، ولكنك أستاذ جامعي تحترف العلم، وأنت أستاذ علم البيولوجيا وعلم الحيوان في كلية العلوم، فهل كنت تفضل أن تنال جائزة الدولة في العلوم أم في الآداب. كان رده حاسما وقاطعا، بل أفضل جائزة الأدب. ربما عكست ملامحي بعض دهشتي من الإجابة ورغبتي في مزيد من الفهم، فاستطرد موضحا: لو لم يكتشف نيوتن قوانين الحركة، لجاء بعده من يكتشفها، بعد زمن طويل أو قصير، ولكن لو لم يكتب هيمنجواي العجوز والبحر فلن يأتي بعده من يكتبها. العلم هو حديث العقل، والأدب هو حديث القلب والروح. عاش معي هذا الحوار الذي دار في حقبة الثمانينيات من القرن الماضي سنوات طويلة، تابعت فيها التمازج والتزاوج بين العلم والأدب،خلافا لما يراه البعض من انفصام بين العلوم البحتة وبين الآداب والفنون, كما تجسد في مقالة تشارلز سنو الشهيرة الثقافتان حيث وصف الاتجاه العلمي والاتجاه الأدبي بأنهما ثقافتان مختلفتان ومنفصلتان، وأردف مقاله هذا بكتاب الذائع الصيت بعنوان: الثقافتان والثورة العلمية. ودلل على حالة التنافر والقطيعة بين العلم والأدب بأن أغلب العلماء نادراً ما يقرأون روايات تشارلز ديكنز وفي المقابل فإن الأدباء في الأغلب لا يعلمون عن القانون الثاني للديناميكا الحرارية. من المثير أن نعلم أن هناك من مشاهير العلماء مثل ابن سينا والرازي وابن النفيس وكوبرنيكوس ولافوازيه وهمفري دافي لهم جولات في دنيا الأدب, فبعضهم كان يكتب الشعر وبعضهم ألف الروايات الأدبية وكتب الأعمال المسرحية, وكان الشاعر الكبير عمر الخيام صاحب الرباعيات المشهورة عالم فلك من الطراز الأول كما كانت له إسهامات علمية مهمة في مجال الرياضيات والطب. والشاعر العربي القديم الطغرائي صاحب القصيدة الشهيرة (لامية العجم)، كان بدوره من علماء الكيمياء. وفي الزمن الحديث نجد الأديب والروائي الروسي أنطون تشيكوف رائد القصة القصيرة والذي يعده الكثيرون أفضل من كتب القصة القصيرة على مستوى العالم هو طبيب، وكان يستعين ببيع بعض إنتاجه الأدبي لتسديد رسوم دراسته لعلوم الطب في جامعة موسكو, ومن بين الأطباء الأدباء الروائي الكبير يوسف إدريس أيقونة القصة القصيرة في مصر صاحب الندّاهة، وبيت من لحم، والأديب الإسلامي الشهير نجيب الكيلاني، وهناك الروائية السعودية رجاء الصانع صاحبة الرواية المفصلية في تاريخ الأدب السعودي بنات الرياض، هي الأخرى طبيبة أسنان استكملت دراستها العليا في مدينة شيكاغو الأمريكية. كما نجد من بين مشاهير الأطباء والشعراء والأدباء في العصر الحديث الشاعر الرقيق إبراهيم ناجي صاحب قصيدة الأطلال وهي واحدة من أشهر أغنيات أم كلثوم.لعلها ثقافة متكاملة بين العلم والأدب، فالعلماء يسطرون الأدب، والأدباء يدرسون العلم، وأحد النماذج التي التقيتها كان الدكتور روالد هوفمان أستاذ الكيمياء بجامعة كورنيل بأمريكا، والحاصل على جائزة نوبل في الكيمياء, دارت بيننا أحاديث طويلة في أكثر من مناسبة وفي أماكن متعددة في داخل مصر وخارجها، وطالت أحاديثنا مؤلفاته الأدبية، فله خمسة دواوين شعرية، كما صدرت له مجموعة مميزة تجمع بين العلم والأدب والفن اسمها الكيمياء في الخيال، يكشف فيها الشرارات الإبداعية والإنسانية في الكيمياء. وشارك هوفمان أيضا في إنتاج برنامج تليفزيوني يُسمَى عالم الكيمياء وهو عبارة عن سلسلة من الحلقات مدة كل منها نصف ساعة، شوهدت على نطاق واسع في جميع أنحاء العالم.حدثني هوفمان عن مسرحيته الشهيرة أكسجين والتي عُرضت في مسارح كثيرة حول العالم، أبطالها ثلاثة مكتشفين (لافوازيه، وبريسلي، وسشيل) وزوجاتهم، حيث تحتار لجنة نوبل فيما بينهم لكي تختار (بأثر رجعي) صاحب الفضل الأكبر في اكتشاف الأكسجين،هل هو أول من قام بتحضير الغاز في المعمل، أم هو أول من تعرف على خواصه التي تساعد على الاشتعال والتي تسبب صدأ المعادن وتآكلها، أو من اكتشف خواصه التي تحافظ على الحياة! وأرسل لي هوفمان طردا بريديا يحوي بعضا من مؤلفاته الأدبية، وصلتني في الإسكندرية. في نفس العام الذي حصل فيه هوفمان على جائزة نوبل في الكيمياء (1981م) حصل إلياس كينتي الروائي والكاتب المسرحي المعروف على جائزة نوبل في الأدب، ولكن المثير أن نعرف أن كينتي حاصل أصلاً على درجة الدكتوراة في الكيمياء من النمسا. هوفمان يرى أنّه ينبغي على العلماء تحمّل مسئولية كاملة عن تأثيرات اختراعاتهم على بني البشر، وتأثير التكنولوجيا على البيئة والمجتمع، وأيضا، تحمل المسئولية الكاملة في حال أثرت التكنولوجيا على تحصيل لقمة عيش الناس، وعلى العلماء استخدام الأدب لشرح العلوم. وفي العام الماضي قامت جمعيتنا العلمية في الإسكندرية بإعداد مؤتمر علمي بعنوان: الثقافة العلمية للجميع الأدب والفن من أجل العلم. عرض المؤتمر جهود العلماء المصريين لتبسيط العلوم ومحاولاتهم لتوصيلها للجميع، فالمجتمع المثقف علميا هو الأقدر على النماء والازدهار، ونادى المؤتمر بتطوير الإعلام العلمي من خلال التدريب والتعليم. وسجل المؤتمر تعاون قسم النحت بكلية التربية النوعية مع معهد الدراسات العليا والبحوث بجامعة الإسكندرية في عمل النماذج المجسمة للتراكيب الذرية في إبداع فني جميل، كما شهد المؤتمر إصدارات لشرح المبادئ العلمية من خلال كتابات أدبية وإبداعات فنية لتوصيلها لغير المتخصصين. تذكرت وقتها كلمات أستاذي الراحل رغم تعاقب العقود، بأن الأدب غذاء القلب والروح، وأضفت، بل والعقل أيضا!.
لمزيد من مقالات د. شريف قنديل رابط دائم: