***
مضيت مبتعدا فى الصحراء والوقت عصرا، لكنه عصر مكتوم حارق الشمس وشديد الجهامة. كنت اسفح عرقا وأعانى عطشا على عطش. وما أن اختفت بيوت قلابشو وحقولها ورائى وأنا أمضى فى اتجاه الجنوب الشرقى الذى حددته البوصلة، حتى أحسست بأننى سأموت عطشاً. وعندما تجلت لى نهود الرمل، تذكرت أن بلحها الدانى رائع الحلاوة كان يزيد عطشي، فلم أمد يدى إليه، وتوحَّش العطش.. أريد أن أشرب، «أشرب وإلا أموت»، ترجَّع ذلك فى ذهنى الغائم، وأكدته خطوات ساقيَّ اللتين كانتا تتهاويان تحتي، ثم انتفضتُ على صوت عواء..عواء صغير، لكنه عواء.
ذئب؟ ذئب صغير رأيته يقترب منى وأنا فى ظل نخلة طالعة من نهد الرمل الذى أعتليه. خطر لى أن أمه وقطيعها سرعان ما سيلحقون بى ويفترسونني، ووجدت يدى تقطف بلحا أحمر من سباطة فى متناولى أملأ به جيوبي. ألهمتنى لحظة العطش واليأس أن أستخدم هذا البلح حصيً أقذف به ذلك الذئب الصغير ليبتعد، فيبتعد عنى خطر مجيء أمه إن أقبلت على صوت عوائه. وما أن شرعت فى ذلك حتى سمعت صوتا طفليا يصرخ بي: « كلبييييي. كلبيييي».
ومن وراء نهد رمل أمام النهد الذى أعتليه، بدأ ظهور صبى صغير يشوِّح بيديه التى تحمل إحداهما عصا صغيرة، يصرخ ألا أوذى كلبه، ومن ورائه ظهرت عنزة كبيرة تتبعها ثلاث سخلات صغار. هيئ لى أننى أهذي، فقد كانت انعكاسات لهيب الشمس على الرمل الذى تلمع دقائقه كمرايا منمنمة تجعل الهواء يتماوج، تبدو المرائى وكأنها صور يُهيئها سراب. وسرعان ما ثبتت الصور..إنه راع صغير، لايتجاوز السابعة، ومعه رعيته.
بادرت الصغير أطمئنه أننى لم أكن لأوذى جروه، فقط كنت أهشه إذ حسبته ذئبا صغيرا يمكن أن تلحق به أمه. عندها تطامن الصغير ضاحكا من جهلى أن الذئاب لاتظهر تحت» سَعرة الشمس». سألته ماذا يفعل فى هذا المكان؟ فقال إنه تبعنى ليخبرنى بالحقيقة التى أنكروها فى « البلد»، مقابل أن أعطيه أحد الأقلام الملونة التى رآنى أكتب بها وكراسا صغيرا مما كنت أكتب فيه. قدمت له القلم وأحد الدفاتر الصغيرة الخالية، فاندفع يخبرنى وهو يتلفت بأن جده « حسان عبد الساتر الهلالي» كان من خرج للذئاب فى الليل، وكان لايحمل سماً بل يمسك بسيفين حاميين، ظل يقاتل بهما الذئاب حتى قتل الكثير منها بعد أن ملأت جسمه بالعض والنهش، فنزف كل دمه على الزرع ومات، وانقطع هجوم الذئاب على بطيخ قلابشو.
كنت أحاول بلع ريقى الذى جف، وتخور ساقاى فأقاوم التهاوي، ويبدو أن ذلك الصغير ذا العينين الذكيتين والطبع غير الهياب لمح أن العطش يقتلني، سألنى « عشطان ؟»، وما أن أومأت مجيبا دون صوت، حتى طلب أن أتمدد على الرمل. أطعته كالمسرنم، فسحب عنزته لتصير رأسى تحت بطنها، أبصرت ضرعيها المكتظين تحننهما الراحتين الصغيرتين للولد فى الجانب الآخر، تهيئهما للحلب، وفتحت فمى ما أن أمرنى بذلك. اندفع رشاش الحليب الثر يملأ فمى ويرطب وجهى وأنا أجرع وألهث. أحسست جسمى يتشرب الحليب كأرض عطشى يرويها السيل فتئز، وقد سمعت أزيزا يصدر من داخلي. ويبدو أننى أنزلقت إلى غشية من يرتوى بتسارعٍ بعد الجفاف، وأخافت غشيتى الولد الذى حسبنى مت، ففر مبتعدا. اختفى قبل أن أفتح عينيَّ وأنهض، ووجدت القلم والدفتر الصغير اللذين قدمتهما إليه مرميين على الأرض عند!
توقفت عن الحكى إذ انتبهت إلى صوت انتحاب خافت إلى جواري، كانت زوجتى تبكى بحرقة كتيمة، وحسبت أن مشهد غيابى عن الوعى وهروب الولد الصغير الذى ظن أننى مت كان عميق التأثير فيها، لكن ما أن أحطت كتفيها بذراعى الأيمن لأهدئها حتى نبست دامعةَ، تسألنى أين « نهود الرمل» التى حكيت لها عنها؟ أين نهود الرمل؟ وبغتنى أن اندماجى فى الحكى طمس انتباهى إلى غياب نهود الرمل حيث كان ينبغى أن نراها على مشارف «قلابشو». كنا وسط قلابشو؟!
***
أين نهود الرمل؟! بل أين قلابشو التى كانت، الواحة الصغيرة ببيوتها المتواضعة المُسيجة بالنخيل، ودروبها الترابية الأنيسة، وأهلها البسطاء قليلى العدد. أبصرت سيارات من كل نوع أمام بيوت أسمنتية بعضها أبراج مُبتذلة العمارة وفجة الألوان. وشوارع أسفلتية متربة يتلاصق على جانبيها زحام من الدكاكين والمحال والمقاهي. وهنا وهناك برك مستطيلة مسورة بجسور من الطين عرفت أنها مزارع سمكية، كانت مُغثية الرائحة. أما النخيل القليل الباقى فى البلدة، فكان هزيلا ينبت من أرض منخفضة حوَّلها نشع الماء إلى سبخات..
أخذت أوقف السيارة بين مسافة ومسافة وأترجل نحو هذا الدكان او ذاك المحل وأسأل عن قلابشو التى عرفت؟ وعن أى سليل لحسان عبد الساتر الهلالي؟ يستغربون مؤكدين أن هذه هى قلابشو وأنهم لايعرفون أحدا باللقب الذى ذكرته. وكنت أتوقف كلما مررت بشخص أتوسم أنه مختلف وقد تكون لديه إجابة مختلفة، لكن الاستغراب ظل يتكرر من سؤالي. ودلفت أخيرا إلى مقهى يحمل يافطة « كوفى شوب» كان يعج بشبان بقصات شعر غريبة وتيشيرتات مطبوعة بالصور والعبارات الأنجليزية، يُشيشون ويتحدثون بأصوات عالية، فاضطررت أن أرفع صوتى « لحظة ياشباب». كررت طرح أسئلتى ذاتها، فأخذوا يتلاحظون ويتهامسون، يهزون رؤوسهم، وتخالج ابتسامات التعجب أو السخرية بعضهم. ومن ركن متوحد أشار شاب لطيف السمرة بيده إشارة صغيرة توحى بأنه يود أن يتكلم، لكننى عندما توجهت إليه مد يده بالسلام فى صمت، ووجدت فى راحتى ورقة صغيرة مطوية. فتحتها عندما عدت إلى السيارة، وقرأت: «انتظرنى بعد محطة بنزين بَرَكة فى طريق الساحلى الدولى».
***
أخبرت زوجتى عن الرسالة وعن صاحبها، وأضفت استحسانى للرجوع عبر الطريق الساحلى الدولي، ثم مضيت على هَدى الجى بى إس إلى محطة وقود بَرَكة، وتجاوزتها بمسافة بدا معها الطريق خاليا وهو ما حزرت أن صاحب الرسالة يريده. توقفت، وسالت زوجتى إذا ماكانت تريد أن تأكل شيئا، فأبدت عدم رغبتها فى الأكل، لكننا توافقنا أن نشرب شيئا من الماء البارد والعصائر ونسمع شيئا من الموسيقى لنشعر ببعض الاسترخاء والراحة. ولا أعرف كم مضى من الوقت حتى لمحت فى مرآة السيارة شخصا يقبل على دراجة من بعيد، ثم توقف خلف السيارة، فنزلت إليه.
بدا الشاب شديد الارتباك وهو يصافحنى متلفتا حوله برغم خلاء المكان، سلمنى لفة من الأوراق، وحاولت معرفة اسمه فقال إن اسمه ليس مهما، فالمهم هو ما سأجده فى هذه اللفة. وبالارتباك الذى جاء به عاد أدراجه، فوقفت مدهوشا أتابعه حتى ابتعد فعدت إلى زوجتى فى السيارة، وانطلقنا.
على الطريق الساحلى لم يكن هناك غير البحر، رمل البحر، وصوت البحر، وطيور البحر، وأفق البحر الذى تلتقى زرقته العميقة بزرقة السماء الصافية فوقه، ومن هذا الأفق كان يهل نسيم البحر العاطر. عالم من النظافة والبكارة استدعى إلى ذهنى عطن سبخات الأرض فى قلابشو، والرائحة المغثية لبرك « زراعة الأسماك»، فهفت نفسى بشدة إلى جلسة استراحة وغداء على رمل الشاطئ. وما أن انعطفت مسرعا خارج أسفلت الطريق نحو البحر، حتى صرخت زوجتى بهلع رهيب، لم أعهده فيها أبدا!
هدَّأتها مفسرا لها ماوراء انعطافى خارج الطريق، ونزلنا بعد أن استراحت أنفاسها. جلبتُ غطاء السيارة وفرشته على الرمل فى ظلها، ثم أخرجت صندوق الطعام ووضعته على الفرشة وجلسنا متجاورين نواجه البحر. كان البحر فى جزر، وديعا سارح الصفحة، ساكنا ويوحى بالسكينة. رحنا نتناول الطعام فيما كنت أتصفُّح حزمة الأوراق وألخص مابها لزوجتي. كانت البداية دراسة مستندة إلى مصادر بالإنجليزية عن فرادة وأعاجيب «كثبان القُبة dome dunes¡ التى لاتتواجد إلا فى بقع نادرة من صحراوات العالم، كانت قلابشو إحداها وأجملها. وبعد هذه الدراسة توالت نسخ ضوئية لمقالات وأخبار صحفية تتناول ما ورواء التغيرات التى لحقت بقلابشو.
كنت شديد الانبهار بما أقرأه عن آلية تشكيل هذه الكثبان، التى تسوّيها رياح متقابلة متعادلة القوة يندر وجودها فى الصحراء، فكأن لهذه الرياح المتقابلة راحتين شفافتين جبارتين وشديدتى الرهافة، تنتقيان لتكويم ثم تشكيل هذه القباب حبيبات رمل فاخرة الفرز، حجومها دقيقة معتدلة تكاد تكون متساوية، ويكثر فى تكوينها الكوارتز المُزلِّق للماء، فتتكون داخل القباب شبكات مسامية عالية الكفاءة، تستقبل ما يسقط عليها من أمطار موسمية وتنقلها بسرعة وسلاسة إلى طبقات أعمق، فتشكل خزانات مياه جوفية مسامية، تستقى منها على مدار العام جذور النخيل الذى تحتضنه هذه القباب. أعجوبة صحراوية تكاد بجمالية تشكيلها تطابق شكل نهود إناث البشر التى لا مثيل لفتنتها لدى إناث كل الحيوانات الثديية. كما تتناظر شبكاتها المسامية للمياه، تشريحيا ووظيفيا، مع شبكة غدد إفراز الحليب وقنوات إيصاله بالغة الدقة، إلى حلمات الإرضاع. أليست جديرة بتسمية « نهود الرمل» التى أطلقتها عليها؟ سألت زوجتى مبتسما، فأومأت دون صوت، لأواصل..
ظاهرة نادرة ومعجزة إلى هذا الحد، صدمنى ما أوردَته بقية الأوراق وحمل عنوان «جرائم مافيا سرقة رمال كثبان قلابشو»، ومنه: إنها قلصت مساحة محميتها من 157 كيلومترا إلى 39 كيلومترا فى عقدين، وأبادت معظم النخيل النفيس الذى كان يرتوى طوال العام مما تخزنه هذه الكثبان من أمطار الشتاء. وثمة مذبحة شهيرة تعرض لها هذا النخيل عندما تقرر اقتلاع 4 آلاف نخلة نادرة لإنشاء مصنع، ولم تُنقل إلى مكان آخر مما بقى من المحمية، أو حتى فى أى مكان بمصر، بل تردد أنها هُرِّبت إلى الخارج. ومع النهب الواسع لرمال المحمية، لم يعد هناك ما يكفى لرفع مستوى أرض قلابشو الزراعية، فازداد فيها النشع بعد انتشار برك « زراعة الأسماك»، وتحول ماتبقى من حقول البطيخ إلي!
سكتُّ متوقفا عن نقل ما أطالعه إلى زوجتى إذ سمعتها تنشج. وهالنى أن وجهها كان غارقا بالدموع. نحيت الأوراق وضممتها فى جنبى سائلا ما الأمر. ما الأمر؟ فنبست عبر نشيجها « استأصَلوها. استأصَلوها «، وحيرنى أن تكون منفعلة بما حدث لكثبان قلابشو إلى هذا الحد، فعدت أسألها ما الأمر. ما الأمر؟ وأخبرتنى .. لقد اكتشفت كتلة ضئيلة صلبة فى صدرها، وعرضت نفسها على طبيبة تعرفها فطلبت منها « ماموجرام»، صورة أشعة على الثدي. ورجَّحت الصورة الشعاعية أن الكتلة لورم ليس حميدا وإن فى بداياته، ولابد من أخذ عينة من نسيج الورم، « خزعة» للفحص الميكروسكوبى لتدقيق التشخيص وتحديد ما يترتب عليه.
لقد تكتَّمتْ حبيبتى الأمر حتى لاتزعجني. كانت تفكر فى الطريقة التى تُجرى بها الخزعة دون أن أعرف، آملةً فى نتيجة سارة نحتفل به معا دون أن نخبر الأبناء. لكن رعبها من نبش صدرها لأخذ العينة، والاحتمال المشئوم لنتيجة تحليلها، أخذا يغمرانها بالهلع، وظل يداهمها كابوس متكرر، ترانا فيه معا نضيع بين « نهود قلابشو» المحترق نخيلها. عندها، أخذت تلح عليها رغبة كأنها بشير النجاة، أن نذهب إلى قلابشو ونصعد نهود رمالها معا، ومعا نأكل من ثمر نخيلها الحلو، لعل ينزاح الكرب عنها وتصفو لبيتنا الأيام. أنهت ما أخفته عني، وأمالت رأسها على كتفى فى وهن، وسمعتها تهمس قائلة إنها أحبت نهود الرمل منذ حكيت لها عنها، وظلت تبحث عن صور لها على الانترنت تخزنها على هاتفها وتعاود مشاهدتها دون ملل، متخيلة وجودى بينها وأنا ابن السابعة عشرة. أرتنى بعضها مبتسمة، وهى تدمع.
بصعوبة حبستُ عبرتين ترقرقتا فى عينى وأنا أمسح بكفيَّ ابتلال وجهها، لكننى لم أستطع مقاومة ارتعاش أصابعى وأنا أفتح أزرار بلوزتها. وأشرق لى أكثر من كل مرة هذا الصدر الذى ظل يفاجئنى بإشراقه ثلاثين عاما. هذا الصدر الذى أرضع بالحليب ثلاثة أولاد صاروا رجالا فلم ينقص بهاؤه فى نفسى بل تعزَّز وربا. أتلمس تلك الكتلة الضئيلة غريبة الصلابة وسط الطراوة الحنون من حولها، وانتبه إلى نشاز بقعة البشرة فوق الكتلة، تشبه مظهر وملمس قشرة برتقالة، متنافرة مع ما يحيطها من نعومة الجلد ونقاء البشرة. ويصيب الذعر أصابعي.
تبكى إبنة نفسى فأضمها وأترفق فى الضم، وتنكمش لائذة بصدرى فكأنها تحاول دخول هذا الصدر والاختباء فيه. أضمها باحتواء وأُقبِّل وجهها الباكي. وألهج بطمأنتها فتهتز ناشجة وتهزني. يختل توازننا متعانقين فى جلوس فنهوى متمددين فى عناق. وفى ظل السيارة، على فراش من الرمل دافئ البلل الذى طاله المد ونحن لاندري، فى حراسة البحر الفوار، وفى حِمى زرقة السماء المبسوطة على كل الوجود، رحنا نتعزى بمسرِّات ثلاثين عاما من زواجنا، تنهمر داخلنا حِسَّا لا مجرد ذكريات. نعود بعمرينا سنين وسنين، ومعاً.. معاً نطير.