لا تفيد المداخل الاقتصادية-الاجتماعية، والمادية بوجه عام، في معرفة لماذا بقي الشرق متخلفًا في الوقت الذي بدأت النهضة الغربية في أوروبا منذ القرن الخامس عشر. ومن أهم تلك المداخل مفهوم نمط الإنتاج الآسيوي. وبغض النظر عن أوجه الاتفاق والاختلاف علي هذا المفهوم، الذي طرحه كارل ماركس بحذر، وكان أكثر مفاهيمه المختلف عليها بين تلاميذه والمتأثرين بأفكاره، لا تقدم المفاهيم والمداخل الاقتصادية-الاجتماعية تفسيرًا علميًا لاستمرار التخلف في الشرق حين بدأت النهضة في الغرب. ولكي تكون هذه المداخل مفيدة وتسهم في تقديم تفسير ، يتعين ربط آثارها بحالة العقل والتفكير في المجتمعات الشرقية. فقد أفضت دراسات عدة أُجريت منذ أوائل القرن الماضي إلي استنتاجات أهمها أن جمودًا فكريًا شديدًا كان العامل الرئيسي وراء استمرار التخلف في الشرق لفترة تصل إلي أربعة قرون بعد ظهور بدايات النهضة في أوروبا. كانت المجتمعات الشرقية غارقة في أفكار تقليدية قديمة ارتبط كثير منها بخرافات وأساطير، في الوقت الذي كانت أفكار جديدة تؤذن ببناء عالم مختلف انطلاقًا من أوروبا. لم يعرف الشرق ما يماثل عصري النهضة والتنوير الأوروبيين، ولم يظهر فيه بالتالي مفكرون وفلاسفة من النوع الذي جعل الفكر قاطرة للتقدم، في تفاعله مع تطور التجارة وبدايات التراكم الذي أدي إلي الثورة الصناعية. وعلي سبيل المثال، دكت أفكار جديدة حصون هيمنة الدين علي السياسة والمجتمع في أوروبا، الأمر الذي أدي إلي حل مسألة العلاقة بين الدين والدولة التي بقيت عائقًا أمام التقدم في بعض بلدان الشرق، خاصة في منطقتنا، حتي الآن. لم يعرف الشرق فلاسفة مثل الهولندي باروخ سبينوزا، الذي وضع في وقت مبكر، (منتصف القرن السابع عشر) أساسًا أول بُني عليه في الاتجاه إلي حل تلك المسألة في الغرب. ولم يكتب أحد في الشرق كتابا مثل مقال في اللاهوت السياسي، الذي فكك فيه سبينوزا نصوصًا لاهوتية تقليدية، وفتح الطريق أمام تجديد فكري جذري جعل العلمانية بمستوياتها المتعددة ممكنة في الغرب. لقد كان الجمود الفكري، ولايزال، الآفة الأكثر خطرًا والعائق الأشد قوة أمام التقدم.
لمزيد من مقالات د. وحيد عبدالمجيد رابط دائم: