القدر لا ينتظر منك الإذن لكى يقتحم حياتك.. بوصف الأقدار هى عادة صاحبة القرار وهى عادة أسيرة لأوامر عليا إلهية لا ندرى عنها شيئا.. يديرها فى ملكوته الأعلى المولى عز وجل للإنسان.. وما على الأخير إلا الطاعة والرضا بأمر كان مكتوبا.. ولقد اختارنى الله هذه المرة ولا مرد لقضائه وأنا مازلت واقفا فى مكانى أتأمل من فوق السقالة المعلقة أمام تماثيل الملك رمسيس الثانى فى أبو سمبل حركة المناشير الكهربائية التى تزن وتئن صاعدة هابطة وهى تقطع رأس تمثال ملك الملوك المعروف فى كتب التاريخ المقررة على تلاميذ الصف
الثالث الثانوى باسم رمسيس الثانى..
لتصعد به الجنازير الفولاذية الصلبة إلى أعلى قمة الجبل.. حيث ينتظره كوكبة من المهندسين والخبراء الألمان والمصريين يعرفون جيدا إلى أين يذهبون به؟
.. وفى آخر المشوار إلى الغرفة المظلمة التى لم يدخلها أحد من قبل سيضعونه.. حيث تجرى أعمال اعادة لصقه وتجميعه.. كأنما ولد من جديد.
ولكن فجأة تدخل القدر بمفاجأة لم تكن فى الحسبان.. وأنا أسير ضاحكا مرحا بين أحضان هذا التاريخ الحى النابض إلى جوار العزيزة الغالية «بهيرة مختار«.. لأجد قدمى تنزلقان غصبا عنى.. لأهوى من أعلى إلى مياه النهر.. الذى وجدت نفسى أغوص فى أعماقه.. ساعتها.. لم تتردد العزيزة الغالية بهيرة مختار وهى بطلة النادى الأهلى فى السباحة.. لحظة واحدة لتقفز خلفى دون أدنى تفكير.. لتلحق بى وأنا غارق لشوشتى وسط المياه.. وكانت أول كلمة قالتها لي: ما تخافش يا عزت.. أنا معاك..
وسحبتنى من ذراعى ووجهى نحو السماء وقالت لي: خلى مناخيرك يا عزت فوق المية.. ولا تخف.. أنا سأسحبك إلى الشاطئ.. ولحق بنا زورق صياد عجوز.. ألقى إليَّ صاحبه طوق نجاة قديما ربما من عمر المعبد.. ولكن العزيزة بهيرة مختار قالت لى: ما تخافش يا عزت أنا ماسكاك كويس خليك عايم على ظهرك.. أنا سأسحبك خلفى إلى الشاطئ.. وراحت هى تضرب الماء بذراعها وقدميها بقوة وانتظام.. حتى جاء الفرج أخيرا.. فى صورة زورق الإنقاذ برجاله الأشداء الذين صعدوا بنا إلى بر الأمان.. على الشاطئ لأجد باقى الرفاق.. ودموع الفرح تملأ عيونهم: جيهان رشتى + محمود مراد + سهير بركات ولكن فرحة النجاة قالت للأحزان: «يا عجوز.. يا شمطاء» اخرجى من حياتنا إلى غير رجعة.. فمازال فى العمر بقية.. بقية للأفراح والليالى الملاح.. «والبركة فى ستاتها».. كناية على أن من أنقذتنى من بنات حواء!
{{{
لكن بمجرد أن أخرجونا إلى الشاطئ متعبين.. مرهقين.. يا دوب نقدم قدما ونؤخر أخرى.. لكن شعورا رائعا يدغدغ أحاسيسنا شعورا يمزج بين فرحة النجاة من غرق محقق بالنسبة لى.. يقابله شعور بالزهو والفخر يملأ كل كيان العزيزة الغالية بهيرة مختار بوصفها المنقذ والمخلص.. فهى بطلة مصر فى سباحة المسافات القصيرة تحت اشراف مدرب قدير اسمه عبدالباقى حسنين.. واقتحم المشهد العظيم فى النهاية صوت نسائى يصيح: البركة فى ستاتها!
لكن المفاجأة التى لم نكن نتوقعها أن جمعا هائلا من السياح قد تجمع لاستقبالنا عند الشاطئ مع موجة عارمة من التصفيق والصفير.. وكاميرات وكالات الأنباء والتليفزيونات الأجنبية التى انشقت الأرض عنها.. لا أعرف من أين جاءت؟.. وهات يا تصوير.. ما تنسوش الساعة السادسة النهاردة تسجيل معانا: بهيرة طبعا فى المقدمة بوصفها البطلة والمنقذ..
ويا سلام على الدنيا!
نسينا كل شىء.. من حولنا السياح وهات يا رقص ويا غناء.. ومحلاك يا مصرى وأنت منتصر فرحان!
ـ وهات يا تصوير.. كل السائحين والسائحات الذين يرددون الغناء ذهبوا ليشاهدوا الشمس وهى ترحل متسللة إلى قدس الأقداس لتحتضن وجه الملك رمسيس الثانى وزوجته الملكة نفرتارى وعمنا حورس العظيم.. تركوا كل شيء.. وهات يا تصوير معنا بكل لغات الأرض.. المنقذة بهيرة مختار والناجى من الغرق.. «اللى هو أنا»!
{{{
ولكن كانت مشكلتنا الحقيقية ـ بهيرة وأنا ـ اننا غارقان فى المياه.. كل شيء نلبسه قد أصابه البلل وعلينا أن نذهب إلى اللوكاندة لكى نخلع ملابسنا الغارقة فى المياه.. ونرتدى ملابس جديدة جافة.. لنبدأ مراسم تسجيلات محطات تليفزيونية مصرية وأجنبية.. معنا..
يعنى تحولنا بقدرة قادر إلى نجوم الشاشة الصغيرة فى لحظة زمان فارقة..!
لكن صدرت الأوامر من الست الآمرة الناهية: بهيرة مختار: لا أحاديث ولا تسجيل.. إلا بعد الذهاب إلى الفندق.. لكى نرتدى حاجة عليها القيمة.. ملابس جافة عطرة تليق بمقامنا الكريم.. ولا إيه؟
وقد كان!
{{{
وذهبنا بربطة المعلم إلى الفندق الذى سنبث أخبارنا إليه.. فوجدناهم قد أعدوا لنا استقبالا ملكيا يليق بنا.. سرنا وسط طابور من الفتيات الرشيقات بلباس فرعونى.. حتى وصلنا إلى قاعة العرش ـ صالة الاستقبال ـ التى أعدوها وزينوها بالورد والرياحين وطابور من فتيات فى عمر الزهور فى انتظارنا.. مشينا: بهيرة + أنا إيدينا متشابكة والرواد من السائحين يلقون علينا باقات الزهور مع باقة من أجمل أغانى الأفراح والليالى الملاح وشباب صغير يقلد عمنا محمد العزبى نجم فرقة رضا للفنون الشعبية يشدو بأغنيته المعروفة: يامراكبى.. عدينا البحر ورسينا على شط غرامك..
وألقت الفتيات علينا باقات من زهور نهر النيل.. ومددن أمامنا مائدة ملء العين والقلب والبطون.. وسط تسجيلات فنان الشعب: سيد درويش: قوم يامصرى.. مصر دايما بتناديك. ونحن ـ بهيرة وأنا ـ عروسا الحفل.
أكلنا وشربنا وضحكنا كما لم نضحك فى حياتنا كلها.. بينما عدسات كاميرات الصحفيين وبرامج التليفزيون العالمية تسجل وتصور وتحكى وتقول..
وطلبوا منا: بهيرة وأنا أن يقول كل منا كلمته..
وأذكر اننى قلت يومها: مصر ولادة.. لايذبل زرعها ولا يجف نبعها.. مادام نهر النيل يسقى ويروى ويرسل الحياة إلى الدور والزهور.. والحب إلى القلوب العاشقة الصابرة.
وقال بسام الشماع صاحب كتاب «النيل ترياق الخير»: النيل ماء يجرى ويملأ عروقنا وأرضنا وسماءنا خضرة وعيشا طيبا وفرحا دائما فى كل بيت وكل دار.
{{{
لكن المعجزة الحقيقية التى حيرت الدنيا بأسرها كيف استطاع هؤلاء المصريون العظام أن يجعلوا أشعة الشمس تتسلل مرتين فى كل عام.. مرة فى يوم عيد ميلاد الملك رمسيس الثانى.. ومرة يوم عيد جلوسه على عرش مصر..
تلك المعجزة العلمية الحضارية التى مازال العلماء من كل أنحاء الدنيا يبحثون عن سرها.. دون جدوى إلى يومنا هذا..
أيها الانسان المصرى.. فى كل زمان وفى كل عصر وأوان.. ما أعظمك..
اسمحوا لى هنا أن أحكى لكم حكايتى مع واحد من أسرار عبقرية الإنسان المصرى قبل الزمان بزمان.. كيف استطاع هذا المخلوق العبقرى الذى بنى الأهرامات ــ وهى وحدها سر من أسرار هذه الدنيا وهذا الكون كله.. والذى لم يْكتشف أحد الكثير من ألغازه حتى كتابة هذه السطور.
وهل هناك لغز مازال بلا حل مثل: أن يأمر الشمس نفسها فتطيعه، أكرر مخلوق بشرى أيا كان، يأمر الشمس أمرا، فلا تملك إلا أنها تقول له: نعم كلامك أوامر، وتدخل بنورها وشعاعها إلى قدس الأقداس فى قلب المعبد مرتين فقط كل عام.. يوم ميلاده ويوم جلوسه على العرش.. لتضئ وجهه ووجوه عائلته يا سبحان الله... وفى الوقت نفسه تحجب شعاعها وضوءها عن ثنايا وجه إله الشر فى الأرض الذى أسمته الإلهة «سعت».
دلونى بالله عليكم... أين فى عصر الذرة يا رفاق من يصنع هذا الآن؟
فى «تراس» فندق «كاتاركت» الشهير فى أسوان ــ وهو واحد من أجمل الأماكن فى بر مصر كله ــ التقينا فى غياب رفيق الطريق الذى اسمه زاهى حواس الذى كان يجهز لرسالة الدكتوراه من جامعة فيرجينيا الأمريكية أيامها + الدكتور أحمد قدرى رئيس هيئة الآثار الأسبق الذى استضافنا أيامها ثلاث ليال بطولها فى الفندق الشهير .. استضافة كاملة ودار حوار لم أسجله أيامها فى أجندتنى أو حتى فى شريط تسجيل لكنه مازال فى القلب والوجدان.. محفوظ.
نسيت أن أقول إنه كان من بين الحاضرين ثلاثة من المهندسين الألمان العباقرة فى التعليم والبناء ولعبة الأضواء وحركة الشمس والمجرات والنجوم الذين أجمعوا على أنه مازال خافيا عنهم سر دخول أشعة الشمس على وجه الإله فى اندماج قدس الأقداس فى المعبد مرتين هذا العام فقط. إنها تحجب أشعة الشمس عن وجه الإلة سعت (إله الشر فى الأرض).. بينما يضيء غرفة الملوك بنفس هذا الاشعاع مرتين فى العام.. يوم عيد ميلاد الملك .. ويوم جلوسه على العرش.
يا سبحان الله!!
ــ يا سبحان الله هذه من عندى أنا ــ
{{{
إلى العزيرة الغالية بهيرة مختار زميلتى فى الجامعة سنة بعد سنة ومنقذتى من الغرق.. سلاما وإلى لقاء.
Email:
[email protected]لمزيد من مقالات عزت السعدنى رابط دائم: