رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

توابع الجائحة..
نقص السيولة يعيد العالم إلى عصر «المقايضة»

محمد على

فرضت جائحة كورونا قيودا صحية واجتماعية لم يعرف العالم نظيرا لها منذ موجات وباء الطاعون فى العصور الوسطى. وبينما وضعت الحكومات وسائل لاستبقاء عجلة الاقتصاد دائرة عند حدها الأدنى، لجأ الأفراد إلى ابتكار حيل موازية للبقاء على قيد الحياة، أو الرمق الأخير منها فى بعض الأحيان. وتصدر هذه الحيل إحياء نظام المقايضة الذى ودعته مدن العالم رسميا فى بداية القرن العشرين، وإن بقى على استحياء فى أرياف البلدان النامية لخمسين عاما تالية. وتضمن هذه الطريقة البدائية تلبية احتياجات طرفى الصفقة دون اللجوء إلى النقد بأنواعه كوسيلة للدفع. السبب: غياب معظم مصادر الكسب الشريف لدواعى الحجر، والعزل، والإغلاق.

تناولت جيسيكا جونز ظاهرة انتعاش تجارة المقايضة فى مقال نشره موقع هيئة الإذاعة البريطانية (بي.بي.سي) . وعرضت جيسيكا فى المقال مقتطفات من كتاب صدر حديثا لرصد الظاهرة.

فيجى حالة للبحث

إدراكا لعمق الأزمة الاقتصادية، تأسست فى أبريل الماضى جمعية أهلية فى جمهورية فيجى بغرض توفير الاتصال بين الأفراد الراغبين فى تلبية احتياجاتهم الحياتية دون سداد أموال !. أطلق على هذه الجمعية اسم «المقايضة من أجل وطن أفضل» وسريعا ما اجتذبت 190 ألف عضو يشكلون قرابة 20% من إجمالى عدد السكان. يتواصلون من خلال موقع فيسبوك لعرض ما لديهم، وطلب ما ينقصهم إن توافر لدى آخرين. أما قائمة السلع التى تبادلها الأعضاء خلال الفترة الماضية فشملت كل شيء تقريبا: الفطائر والمعجنات مقابل الطوب، والحيوانات الحية مقابل قوارب الصيد الصغيرة، والمصنوعات الجلدية مقابل آلات موسيقية. وكان الاقتصاد الوطنى قد ضرب فى مقتل من جراء توقف النشاط السياحى الذى تعتمد عليه البلاد كمصدر رئيسى للدخل. وأدى توقف السياحة إلى تعطل مائة ألف مواطن، أى قرابة ثلث القوة العاملة الإجمالية، وحرم الاقتصاد من 30% على الأقل من الناتج المحلى الإجمالي. وبالتالي، بات الأفراد بلا دخل كريم يسمح لهم بالبقاء على قيد الحياة فحسب، بعد استنفاد مدخراتهم من أيام الوفرة إن وجدت. فهل يصلح هذا النظام البدائى فى أماكن أخرى من العالم ؟.

مبادلة الطعام فى بريطانيا

تأقلمت فيجى بيسر مع أجواء الضائقة الاقتصادية بفضل «فايسا» وهى نمط تجارى تقليدى بقى على استحياء فى هذا البلد الصغير ويعنى ببساطة: المقايضة. ولكن الجمعية الناشئة هناك وظفت التكنولوجيا الحديثة لتحقيق الهدف المنشود وسط أكبر قاعدة ممكنة من المنتفعين. ومن اللافت، أنه نشأت جمعية مشابهة فى بريطانيا تحت اسم «المبادلة للمملكة المتحدة» وتلخص هدف هذه الجمعية فى مساعدة البريطانيين على التخلص من المتروكات فى بيوتهم كالملابس، وقطع الأثاث، والأجهزة القديمة من خلال صفقات غير نقدية بين طرفين. بالصدفة، اتصلت ممرضة بالجمعية لتوريد بضعة أصناف من هذه السلع لاستغلال المساحات التى تشغلها دون داع فى بيتها. وعلى غير المتوقع، قدمت الجمعية لها وجبات ساخنة تكفى أفراد العائلة لعدة أيام مقابل ما لفظته. وفرت الجمعية عليها كلفة الطعام والوقت، وعناء تجهيزه لأسرة كاملة، بينما اضطرت الممرضة للبقاء خمسة أيام متصلة بالمستشفى لرعاية المرضى فى ذروة انتشار الوباء. وتدريجيا، بلغ عدد أعضاء الجمعية 1300 بريطانى حتى مطلع شهر أغسطس الماضي. وبطبيعة الحال، اختلفت نوعية السلع المتبادلة بين الأعضاء فى بريطانيا عنهم فى فيجي، لتشمل فى الحالة الثانية: الأسطوانات المدمجة، والفساتين، مقابل الفطائر، والمشويات، وغيرهما من الأطعمة. ثم انتقلت هذه النوعية من المعاملات عبر العالم حتى يتغلب الأفراد من شتى الطبقات على عقبتى الحجر المنزلي، وانعدام السيولة.

فن المقايضة

من أجل رصد الظاهرة والتأصيل لها، شاركت شيرا دالين فى تأليف كتاب بعنوان «فن المقايضة» وتناولت فيه أوقاتا عصيبة عاصرها العالم، واضطر الأفراد خلالها إلى التبادل السلعى عوضا عن البيع والشراء التقليدي. ومن أبرز تلك الفترات أزمة الكساد الكبير الذى أصاب الولايات المتحدة فى الثلاثينيات من القرن العشرين وانتقلت عدواه الاقتصادية إلى أركان العالم الأربعة كالوباء. نشأت فى بداية تلك الفترة أكثر من 300 جمعية أهلية تخصصت فى تقييم السلع وعرضها للمقايضة نظرا لانعدام السيولة فى يد الأفراد. وفى منتصف مارس الماضي، أحيت أمريكية تدعى فيرونيكا كون هذا الأسلوب فى ولاية نيفادا. وضعت إعلانا على فيسبوك، فانضم إلى جمعيتها ألف عضو فى غضون 24 ساعة فقط . وقفز عدد الأعضاء الآن إلى أكثر من 5600 فى حدود الولاية. أما السلع محل المبادلة فشملت أصنافا من البقالة شحت لظروف الإغلاق وتوقف الحركة على الطرق ومنها الدقيق، والخميرة، وبيض المائدة، إلى جانب مستلزمات لا يمكن الاستغناء عنها كحفاضات الأطفال، والمطهرات، والكمامات الطبية.

«تسليع» الوقت

لم يقتصر الأمر على مقايضة السلع كما تقول دالين فى الكتاب بل اتسع ليشمل الوقت !. ففى السبعينيات من القرن العشرين، نشأ بنك متخصص فى اليابان لمبادلة الوقت. وتشير القواعد المتبعة فى هذا النوع من المعاملات إلى أنه يمكن للأعضاء أن يضعوا أنفسهم تحت تصرف أعضاء آخرين لساعة واحدة فى توقيت معلن مقابل الحصول على نفس الخدمة فى توقيت آخر. وتستغل هذه المساحة الزمنية المتفق عليها بالتراضى فى تقديم خدمات إما عالية المقابل، أو نادرة، ومنها على سبيل المثال: دروس تعليم عزف البيانو، والرسم، واللغات بدون أى مقابل مادي. تبادل للمنفعة. وانتقلت هذه الصيحة إلى الولايات المتحدة فى عام 1992 وحظيت بشعبية واسعة النطاق منذ هذا الوقت. وتأسس بنك مماثل فى بريطانيا فى عام 2002 لتقديم الخدمات ذاتها. وتقول كيرى تايلر مدير الاتصال بالبنك إن أعماله انتعشت بصورة غير مسبوقة منذ تفشى جائحة كوفيد ـ 19. وتوضح أن الخدمات المقدمة اتسعت لتشمل توصيل الوصفات الطبية، والتسوق لحساب الغير، وتعبئة وتغليف المشتريات لمصلحة الشرائح الأكثر تضررا بالجائحة. وعلى الصعيد الإنساني، باتت بنوك الوقت أكثر أهمية لشريحة كبار السن، ومرضى خرف الشيخوخة، والذهان، والمقيمين بمفردهم فى مناطق نائية. خدمات عامة لا تقدر بثمن فى أوقات عصيبة، وتقدم لأعضاء هذه البنوك المبتكرة دون مقابل.

المقايضة فى الأعمال

لم يكن أصحاب الأعمال الحرة ليفوتوا فرصة كالمقايضة وتبادل المنفعة للتوسع فى أنشطتهم أو الحفاظ عليها. ويعمد أرباب هذه الأعمال إلى مبادلة جانب من خدماتهم مقابل خدمات مناظرة يقدمها آخرون دون مقابل. وتشمل القائمة هنا الأطباء، والمحامين، وشركات الخدمات بأنواعها. ولوحظ أن هذا النمط من المعاملات رفع عائد النشاط بما يتراوح بين 10% و15% سنويا. ولإيضاح طبيعة المقايضة هنا نضرب المثل التالي: يقدم مهندس تنسيق المساحات أعمالا بقيمة خمسة آلاف دولار لمصلحة مقر عيادة لطبيب أسنان. يعامل هذا المبلغ بوصفه خط ائتمان كالذى توفره البنوك، ويمكن مبادلته من خلال مراكز متخصصه بما يعادله من خدمات تفيد المهندس لدى آلاف الأفراد. وقد ارتفع هذا النمط من المعاملات بنسبة 20% تقريبا منذ اندلاع الجائحة.

وختاما، فمن المنتظر أن تشهد فنون المقايضة بشتى صورها مزيدا من الانتعاش فى أنحاء العالم خلال الفترة المقبلة نظرا لغياب سقف زمنى منظور لانتهاء الجائحة. بديلا للنقد، ويغنى عن خطوط الائتمان.

رابط دائم: 
اضف تعليقك
البريد الالكترونى
الاسم
عنوان التعليق
التعليق