رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

الغُربة عن الأوطان سنة ماضية فى حياة الأنبياء
الهجرة .. نقلت الرسالة من الدعوة إلى «الأمة»

تحقيق ــ رجب عبدالعزيز
الهجرة النبوية- بريشة الفنان محمد سليمة

  • العلماء: منحت نفوس المؤمنين ميدانا أرحب لإعلاء راية الحق

 

 

لا شك أن الهجرة النبوية تعد الحدث الأبرز والفارق فى تاريخ الإسلام والمسلمين، الأمر الذى دعا المسلمين الأوائل إلى التأريخ بها. لكن لو تتبعنا تاريخ الأنبياء سنجد أن الهجرة كانت سنة ماضية على سائر النبيين، وقد كانت هجرة النبى محمد صلى الله عليه وسلم ـ حدثا فارقا كما كانت عند الأنبياء من قبل، وإن كانت هجرته عليه الصلاة والسلام الأكثر بروزا عن هجرات جميع الأنبياء.

وهنا يبرز سؤال: لماذا كتب الله على أنبيائه الهجرة؟

يقول الدكتور عبدالمقصود باشا، أستاذ التاريخ والحضارة الإسلامية المتفرغ بكلية اللغة العربية بالقاهرة: إن كلمة الهجرة بمعناها الأعم والأشمل تكاد تكون قد كتبت على معظم الأنبياء، ولعلنا نتساءل: لماذا هذا النوع من الابتعاد والغربة والبعد عن الأوطان كتب على خير الناس وهم الأنبياء؟ فمثلا أبو الأنبياء إبراهيم كانت هجراته عليه السلام متعددة، فقد ولد فى مدينة زأورس على شاطئ الخليج العربي، ثم هاجر إلى شمال العراق وبشر بدعوته، ولكنه لم يجد أى آذان مصغية، حتى إنه ألقى به فى جحيم الدنيا حينما أوقدوا له نارا عظيمة.. ثم كانت هجرة إبراهيم بعد ذلك إلى أرض كنعان فى فلسطين، ثم كانت هجرته بعد ذلك إلى مصر.. إذن الهجرة مع إبراهيم وغيره من الأنبياء كانت مكتوبة ومقدرة ومقررة ولا يمكن الفكاك منها. توقد حضر إبراهيم إلى مصر مصطحبا بعض أتباعه وأعوانه، ثم عاد منها وقد أهديت إليه السيدة هاجر.. ثم هاجر إبراهيم عليه السلام إلى مكة المكرمة مصطحبا ابنه إسماعيل والسيدة هاجر.

موسى عليه السلام

ويضيف: إذا كان هذا وضع أبى الأنبياء، فلنأخذ مثلا سيدنا موسى عليه السلام الذى ولد ونشأ وتربى فى مصر حتى صارت له مكانة فى البلاط الفرعونى هو وأخيه هارون.. ثم تحدث المشادة بين أحد أبناء قومه وأحد المصريين، ويهاجر فرارا من الفراعنة عبر أرض سيناء إلى مدين، ويظل هناك عشر سنوات ثم يعود عبر جنوب سيناء مرة ثانية. ثم يرسل فى عودته من مهجره إلى مصر ويكلف بالرسالة. ثم يضطر موسى إلى الهجرة ثانية مصطحبا قومه، وينفلق له البحر بعد أن يضربه بعصاه وفرعون وجنوده يتبعونه، ويتراءى الجمعان، حتى قال أصحاب موسى «إنا لمدركون» وفى التوكيد بـ «إن» ـ هنا ـ دلالة على قرب المسافة بين الفريقين، وينجى الله بنى إسرائيل، والقصة معروفة فى عدد من سور القرآن.. ويتوفى موسى دون أن يمكنه الله من دخول بيت المقدس.

ويستطرد د.عبد المقصود باشا، قائلا: فإذا غصنا فى التاريخ قديما لوجدنا هجرة نبى الله نوح وتركه موطنه والبلاد التى نشأ وترعرع بها، وتكون هجرته فى سفينته إلى أن تهبط على جبل الجودي.

ويتابع: فإذا تأخرنا عن عصر نوح وموسى قليلا لوجدنا هجرة السيد المسيح الذى لم يجد على وجه الكرة الأرضية مكانا يأوى إليه ويحميه من بطش أعدائه، فكانت هجرته هو وأمه مريم العذراء ويوسف النجار إلى أرض مصر.. وهو صغير.. ويمكث فى مصر سنوات عدة، ثم يعود إلى بيت لحم وهو كبير لتدبر له المكائد ويسوقونه للصلب فيرفعه الله ويلقى الله شبهه عليه.

الهجرة المحمدية

ويشير د.عبدالمقصود باشا إلى أنه بالرغم من أن الهجرة كانت فى حياة رسولنا - محمد صلى الله عليه وسلم - وكثير من الأنبياء حدثا فارقا، لكن هجرة الحبيب صلى الله عليه وسلم تختلف عن هجرات جميع الأنبياء، والسبب فى ذلك أنه لم يتم الهدف فى أية هجرة لأى نبى إلا لمحمد عليه الصلاة والسلام، فهجرته كانت نصرا وفتحا حقق الله بها الهدف الأسمى للدين الخاتم، قال تعالي: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا).

من جانبه يقول الدكتور عبدالمنعم إبراهيم عامر، الباحث الشرعى والإمام بالأوقاف: بدأ نبينا صلى الله عليه وسلم فى التفكير فى الهجرة والاستعداد لها منذ سمع من ورقة بن نوفل قوله: (يَا لَيْتَنِى فِيهَا جَذَعًا، لَيْتَنِى أَكُونُ حَيًّا إِذْ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «أَوَ مُخْرِجِيَّ هُمْ«، قَالَ: نَعَمْ، لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بِمِثْلِ مَا جِئْتَ بِهِ إِلَّا عُودِيَ).تتوقول ورقة هذا نتيجة استقرائه لأحوال الأنبياء من قبله فقد وجد أنهم انتصروا بعد هجرة وإخراج أو تهديد بذلك، قَالَ تَعَالَي: «وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِى مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ(13) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِى وَخَافَ وَعِيدِ».

كَمَا قَالَ قَوْمُ شُعَيْبٍ لَهُ وَلِمَنْ آمَنَ بِهِ: «لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِى مِلَّتِنَا». وَقَالَ قَوْمُ لُوطٍ: «أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُون»َ، وقالوا أيضًا كما حكى عنهم القرآن: «قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِين».

وكذلك موسى عليه السلام وهجرته إلى مدين، حيث وجد مَطلباً للمعيشة، ومُهَاجَراً، ومندوحة عما يكره،(وَسَعَةً) فى الرزق، وإظهار الدين، والهدي، والغني، والأمن والنجاة من القوم الظالمين، وفى ذلك يقول ابنُ كثير: لَمَّا طَالَ مُقام مُوسَي، عَلَيْهِ السَّلَامُ، بِبِلَادِ مِصْرَ، وَأَقَامَ بِهَا حُجَج اللَّهِ  وَبَرَاهِينَهُ عَلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ، وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ يُكَابِرُونَ وَيُعَانِدُونَ، لَمْ يَبْقَ لَهُمْ إِلَّا الْعَذَابُ وَالنَّكَالُ، فَأَمَرَ اللَّهُ مُوسَي، عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَنْ يَخْرُجَ بِبَنِى إِسْرَائِيلَ لَيْلًا مِنْ مِصْرَ، وَأَنْ يَمْضِيَ بِهِمْ حَيْثُ يؤُمَر، فَفَعَلَ مُوسَي، عَلَيْهِ السَّلَامُ.

وها هو نُوحٌ يهاجر من قبل وكان فى يوم عاشوراء، (وَهُوَ الْيَوْمُ الَّذِى اسْتَوَتْ فِيهِ السَّفِينَةُ عَلَى الْجُودِيِّ فَصَامَهُ نُوحٌ شُكْرًا لله، تقَالَ تَعَالَي: «فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ». وجاء هذا النصر وهذا الخلاص وهذه النجاة بعد هجرة أيضًا.

وقد كان خاتم الأنبياء هجرة: محمد صلى الله عليه وسلم:، يقول ابن كثير: وَقَالَ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنْ مُشْرِكِى قُرَيْشٍ: «وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلا قَلِيلا»، وَقَالَ تَعَالَي: «وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِين».

وَكَانَ مِنْ صُنْعِهِ تَعَالَي: أَنَّهُ أَظْهَرَ رَسُولَهُ وَنَصَرَهُ، وَجَعَلَ لَهُ بِسَبَبِ خُرُوجِهِ مِنْ مَكَّةَ أَنْصَارًا وَأَعْوَانًا وَجُنْدًا، يُقَاتِلُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ، وَلَمْ يَزَلْ يُرَقِّيهِ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ شَيْءٍ إِلَى شَيْءٍ، حَتَّى فَتَحَ لَهُ مَكَّةَ الَّتِى أَخْرَجَتْهُ، وَمَكَّنَ لَهُ فِيهَا، وَأَرْغَمَ آنَافَ أَعْدَائِهِ مِنْهُمْ، ومِنْ سَائِرِ أَهْلِ الْأَرْضِ، حَتَّى دَخَلَ النَّاسُ فِى دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا، وَظَهَرَتْ كَلِمَةُ اللَّهِ وَدِينُهُ عَلَى سَائِرِ الْأَدْيَانِ، فِى مَشَارِقِ الْأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا فِى أَيْسَرِ زَمَانٍ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَي: «فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ» كَمَا قَالَ تَعَالَي: «وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ، وَقَالَ تَعَالَي: «كَتَبَ اللَّهُ لأغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِى إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ  عَزِيزٌ».

وعما تفردت به الهجرة النبوية، يؤكد الدكتور هانى محمود الأزهري، مدرس الشريعة بحقوق عين شمس ـ أن الهجرة النبوية أحدثت تحولا جوهريا فى مسيرة الإسلام؛ حيث نقلت الرسالة الإسلامية من مرحلة الدعوة إلى الفكرة والمنهج، إلى مرحلة الأمة التى تتجسد فيها الفكرة ويهيمن فيها المنهج، وتصير فى أكنافها دعوةُ الحق عزيزة فى حصن حصين، لذا ـ والكلام للأزهرى فلا عجب أن تكون الهجرة سنة ماضية فى حياة الأنبياء، تحقق للدعوة مناخا أفضل لانتشارها، وتمنح نفوس المؤمنين ميدانا أرحب للنضال من أجل إعزاز راية الحق فى أرض جديدة يعد انضمامها إلى معسكر الدعوة مكسبا عظيما، يحقق تحولا لافتا فى مسار انتشارها.

وهذا ما نلحظه فى هجرة أبى الأنبياء إبراهيم بعد أن انسدت أمامه آفاق الدعوة فى أرض قومه.

وكذلك موسى عليه السلام بعد أن عزم فرعون وقومه على قتله ومن معه. والخبر يغنينا عن استقراء حياة الأنبياء لتتبع هذا المعني؛ ففى صحيح البخاري: لما ذهب النبى - صلى الله عليه وسلم - مع خديجة إلى ابن عمها ورقة بن نوفل، تنبأ ورقة باضطرار النبى - صلى الله عليه وسلم - إلى الهجرة، وأخبره بأنه لا يأتى نبى بمثل ما جاء به إلا عودي.

رابط دائم: 
اضف تعليقك
البريد الالكترونى
الاسم
عنوان التعليق
التعليق