يقولون إن أقصر طريق للوصول إلى الهدف هو الخط المستقيم. وفى الأزمة الليبية يصمم الكثير من القوى الدولية على الدخول فى دهاليز وتعرجات سياسية، ويقوم الدبلوماسيون بجولات مكوكية بين عواصم مختلفة لطرح مبادرات أو جس النبض تجاه حلول معلينة من دون أن تتطرق مباشرة لجوهر المشكلة، وهو انتشار الميليشيات والمرتزقة والإرهابيين برعاية سياسية وغطاء عسكرى من تركيا، ويتحكم هؤلاء فى مفاصل القرارات التى تتخذها حكومة الوفاق فى طرابلس.
لم تعد الأزمة بحاجة لمزيد من الشرح والتوضيح، فالقوى المنخرطة فى الحرب واضحة، والجهات الداعمة للمتطرفين لا تنكر ذلك، وعناوين الحل معروفة، فلماذا يستمر اللف والدوران وتصر بعض الدول على تجاهل المقاطع الرئيسية فى الأزمة التى أدت إلى هذا المأزق؟ ولماذا الصبر الطويل على كل الخروقات التركية، والانتهاكات التى قلبت التوازنات التقليدية، وتريد لى أعناق ما استقر من ضوابط فى مجال الجغرافيا السياسية؟
تشير الإجابة إلى عدم وجود إرادة دولية حقيقية لتسوية الأزمة الليبية، كأن هناك قوى ترتاح لما تقوم به أنقرة من تخريب متعمد وسعى نحو مزيد من تعقيد الأزمة حتى تصبح عصية على الحل، ما يمنحها قدرة أكبر على المناوشات، وتوسيع نطاق الهيمنة، لأن كل الخطوات التى اتخذت تأتى عند معضلة تركيا وتحاول استخدام عبارات فضفاضة، والقفز فوق المعالم الرئيسية لدورها الذى استغل ضعف حكومة الوفاق وتمترس داخل الكثير من الدواليب العسكرية والسياسية والاقتصادية فى غرب ليبيا.
تولد يقين لدى عدد كبير من المتابعين أن هناك دولا كبرى سعيدة بتعويم تركيا فى المياه الليبية، والهروب من التوافق حول خطوات محددة لردعها، ونسيان القرارات الدولية الخاصة بتهريب الأسلحة والمرتزقة والإرهابيين وتأجيج الحرب، والتغافل عن عدم شرعية حكومة الوفاق ذاتها التى منحت أنقرة صكوك غفران فى المجالات الأمنية والسياسية والبحرية، وما خفى كان أعظم، وعدم التفكير الجاد للشروع فى تغييرها.
ترتاح بعض القوى للضجيج السياسى الذى تحدثه زيارات ولقاءات وحوارات مسئولين أوروبيين وأمريكيين مع بعض الجهات المعنية بالأزمة، وتتقاعس عن الترتيبات اللازمة لتدشين ما تتمخض عنه، ففى كل المناقشات التى تتم ثمة حرص على الحديث بروح عادلة، قوامها ضرورة عدم التمادى فى الاقتتال، والحفاظ على وقف إطلاق النار، وتعظيم أهمية دعم الحل السياسي.
لم تتمخض هذه الشعارات عن خطوات ملموسة فى أى من هذه الزوايا، بما أدى إلى التعامل معها على أنها نوع من دبلوماسية العلاقات العامة، والتى يريد أصحابها إثبات حضورهم فى دفتر الأزمة من دون أن يكلفهم ذلك اتخاذ إجراءات صارمة تجاه الأطراف التى تسببت فى الانسداد.
قادت هذه السياسة إلى منح تركيا جرأة نادرة فى استعراض عضلاتها فى ليبيا، والمضى قدما فى توريد المعدات العسكرية وضخ المرتزقة بأرقام فلكية، فقد أيقنت أنقرة أن المعركة مستمرة وتستلزم تكديس كميات هائلة من الأسلحة، وشحن الآلاف من المرتزقة، فإذا لم تستطع تجاوز الخط الأحمر فى الشرق الليبي، الذى حدده الرئيس عبدالفتاح السيسى منذ شهرين، أى خط سرت الجفرة، بإمكانها السيطرة على الغرب، وزرع قواعد عسكرية تابعة لها، والقبض على مفاتيح موانئ مثل الخُمس ومصراتة.
تجرى تفاصيل هذه الخطوات فى العلن، ولم تتحرك القوى الدولية الباكية على ما وصلت إليه ليبيا، وربما تسعى إلى زيادة وتيرة الالتفاف عبر طرح مبادرات من نوعية جعل سرت والجفرة منطقة منزوعة السلاح، ما يصب فى مصلحة حكومة الوفاق وتركيا وأعوانهما من المرتزقة والمؤدلجين، فالفكرة تنطوى على مكونات خبيثة، وتصطحب معها تصرفات قد تغير من التوازنات الراهنة فى الوسط والشرق الليبي، وتفضى إلى شرعنة الميليشيات. توفر المبادرات المنقوصة والتصورات العاجزة وقتا لتركيا لترتيب أوراقها فى ليبيا، لأن حالة اللاسلم واللاحرب يمكن أن تكون مثالية لها لترتيب أوضاعها، وحل التناقضات المتصاعدة داخل حكومة الوفاق. والأهم زيادة شحن الأسلحة، والتحايل على ما تريده بعض الدول الأوروبية من فرض طوق بحرى لمنع تهريبها إلى ليبيا.
من يريد الحل يجب أن يذهب إلى الضغط على تركيا أولا بكل الوسائل الممكنة، وهى كثيرة ومتعددة، بدلا من النفخ فى الدور الذى تقوم به شركة فاجنر، وتضخيم الهواجس الغربية من تنامى نفوذ روسيا فى ليبيا وجنوب البحر المتوسط.
إذا كانت هذه المسألة صحيحة ودقيقة، فالطريق إليها يأتى من تطبيق التوجه نحو منع التدخلات الخارجية. وهناك أرقام معلنة بشأن المرتزقة السوريين الذين دفعت بهم تركيا إلى ليبيا، وشحنات محددة لأسلحة حملتها سفن تابعة لها وفرغت حمولاتها فى وضح النهار داخل موانئ ليبية. والأخطر أن تركيا وقطر قامتا بتجنيد المزيد من المرتزقة من دول إفريقية، ما يضاعف من المأزق، ويضاعف من صعوبة التخلص من هؤلاء، لأنه قد يتم إدراجهم ضمن المؤسسة الأمنية التابعة لوزارة الداخلية فى حكومة الوفاق، ومنحهم هويات وطنية تمنع التخلص منهم إذا قدر أن يكون هناك حل سياسى مناسب فى المستقبل. يفضى التردد والارتباك والبطء فى التعامل مع الأزمة إلى إيجاد واقع مرير على الأرض، يحتاج تغييره إلى جهود مكثفة، يمكن أن تدفع ضريبتها الدول التى وقفت تتفرج وشاهدت تفاصيل الأحداث تمر أمام أعينها ولم تتدخل، واكتفت بقناعة تشى لها بأن ما يجرى لن يمس مصالحها الإستراتيجية، أو يمكن أن يؤدى إلى إنهاك القوى المنخرطة فى الحرب ويسهل تقويضها عندما تأتى اللحظة المناسبة.
يتجاهل هذا السلوك وجود تحولات يمكن أن ترسم خريطة جديدة تتطلب دفع تكاليف مادية ومعنوية باهظة، لأن دول الجوار لن تقف مكتوفة الأيدى وتتفرج على تركيا وهى تقوم بتحركات تمس أمنها القومي، فعند حد معين قد تتحرك مصر عسكريا حتى ولو لم تتجاوز أنقرة والمرتزقة الخط الأحمر المعروف، فهدفه ليس الدفاع عن شرق ليبيا، بل الحفاظ على وحدة الدولة ومنع انهيارها أو تحويلها لدولة فاشلة تماما.
لمزيد من مقالات ◀ محمد أبو الفضل رابط دائم: