رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

باحث ألمانى يكشف بعضا من أسرارها
ابتسامة الموناليزا ..اللغز الأبـدى

محمد بركة;

إنها الابتسامة الأشهر فى التاريخ بغموضها ومسحة السخرية الطفيفة التى تشوبها . حار فى تفسيرها نقاد الفن التشكيلى ولم يستطع المؤرخون الجزم بوجود شخصية حقيقية وراءها بينما لا يكف العلماء عن إخضاعها للبحث التجريبى بين الحين و الآخر . إنها لوحة الموناليزا أو «الجيوكندا» التى انتهى الفنان العالمى ليوناردو دافنشى من رسمها منذ خمسة قرون وعشر سنوات ولا تزال تثير الجدل و الفضول علما بأن دافنشى لم يكن مجرد رسام عبقرى بل كان أول من ابتكر إنسانا آليا قادرا على الحركة، وكذلك كان أول من قام بتصميم كمبيوتر رقمى وصمامات صناعية للقلب فضلا عن كونه عالما وفلكيا ونحاتا .

....................

ما الذى يجعل هذه اللوحة استثنائية للغاية حتى إنها تجتذب أكثر من خمسة ملايين زائر كل عام يأتونها من شتى بقاع العالم ؟ ما الذى يجعل من اللوحة التى تحمل رقما متسلسلا 779 فى متحف اللوفر بباريس وتصور بورتريها لربة منزل عادية من الطبقة المتوسطة فى مدينة فلورنسا أشهر لوحات العالم ؟ كلما أمعنت فيها ازددت حيرة : لمن تبتسم وأين تجلس ومن هى أصلا تلك السيدة؟

إنها متاحة طوال الوقت على شاشات التليفزيون و البطاقات البريدية ومحركات البحث و فناجين القهوة على «الكافيهات» المختلفة، لكن رؤيتها وجها لوجه هو ما يستحق «الحج» العاصمة الفرنسية واستخدام السلم الكهربائى للوقوف فى زحام الطوابير ساعات طويلة قبل أن يجد نفسه أمام الموناليزا الحقيقية والتى تختلف عن كل «الموناليزات» الأخري، يرى الزائر اللوحة المصنوعة من الخشب الأرو التى استمر ليوناردو يعمل بها لمدة أربع سنوات ثم احتفظ بها بعد ذلك على مدى عشر سنوات حتى وفاته ولم يكن يرغب فى التفريط فيها أبدا .

من فلورنسا إلى روما إلى ميلانو وبعدها إلى البلاط الملكى الفرنسي، تعددت محطات ميلاد اللوحة ومعها كانت تنتشر الأساطير والألغاز حولها . ستيفان كلاين باحث ألمانى يسعى للإسهام فى حل كشف بعض من تلك الأسرار المحيطة بهذا العمل الفريد . حصل كلاين المولود عام 1965 على الدكتوراه فى الفيزياء الحيوية لكنه تفرغ للكتابة و التأليف فى مجال تبسيط العلوم وأصبح كتابه «الوقت: المادة التى تتكون منها الحياة» الأكثر مبيعا على مستوى العالم عام 2006. آخر مؤلفاته «تراث دافينشى كيف أعاد ليوناردو اكتشاف العالم من جديد» يحمل فصلا كاملا عن تلك اللوحة المحيرة .

فى كتابه الصادر أخيرا عن المركز القومى للترجمة ونقلته عن الألمانية ناهد الديب، يعترف كلاين بأن من يبحث فى المصادر الخاصة بهذه اللوحة يتصور أنه يسبح فى عالم من الخيال فأول الطلاسم حول سحر الموناليزا وأكثرها جاذبية هى تلك التى كتبها فالتر باتر 1869. لقد رأى هذا الناقد الفنى الإنجليزى أن سيدة اللوحة تمثل النموذج الأصلى للأنوثة رأى فيها القوة التى سبقت الخليقة والتى سوف تدوم بعدها، صحيح أن جفون الموناليزا تبدو كما لاحظ باتر متعبة بعض الشيء لكنه ولاعجب فى ذلك فقد كتب فيها قصيدة يقول مطلعها :

هى أقدم من الصخور التى تجلس بينها

لقد ماتت عدة مرات

مثل الخفاش

لقد عرفت سر القبر

وغاصت فى أعماق المحيط

لقدت ولدت مثل هيلينا الطروادية

وكانت مثل القديسة

أما الأشخاص الأكثر واقعية فإنهم يهتمون بالسؤال: من صاحبة هذا الوجه المرسوم فى الصورة ؟ لم تتفق الآراء حتى اليوم . صحيح أن بعض الخبراء يتفقون مع جيورجيو فازراى أول من كتب سيرة ليوناردو على أن صاحبة الصورة هى سيدة من فلورنسا اسمها ليزا جيراردينى جلست أمام ليوناردو كموديل بناء على طلب زوج جيراردينى تاجر الحرير المدعو فرانشكو دى جيكوندو بمناسبة انتظارهما لخبر سار، أى أن الصورة كانت لسيدة حامل تنتظر مولودها، ولكن ليوناردو لم يعلن عن هذه اللوحة أبدا . ولا أحد يعلم كيف تطورت هذه اللوحة على مدى السنين التى عمل فيها دافنشى وبالتالى من الوارد جدا أنها انحرفت عن الأصل لتصبح لوحة لسيدة غير موجودة خصوصا وأن الرسام قرر أن يحتفظ بها لنفسه ولم يعطها للزوج الذى لا توجد وثائق تاريخية حاسمة تؤكد وجوده أساسا!

الباحث الأدبى الإيطالى كارلو فيتشى يعتقد من ناحيته أن الموناليزا التى نراها اليوم لم تكن سوى محظية تدعى ايزبيلا جوالندا وكانت فى أثناء فترة إقامة ليوناردو فى روما تصاحب علية القوم هناك وعندما طلب أحد الأثرياء من دافنشى رسم بورتريه لها قام دون تردد بإعادة تشكيل لوحة ليزا جيراردينى التى لم تكن قد اكتملت بعد.

أما الباحثة ليليان شفارتس من نيويورك فقد كانت أكثر جرأة عندما نشرت أبحاثها فى مجلة «ساينتفك أمريكان» والتى خلصت فيها من خلال برنامج لتحقيق الصور عبر الكمبيوتر إلى النتيجة البارعة الآتية : ليوناردو والموناليزا هما شخص واحد ! هناك مثل معروف فى توسكانيا ساد فى عصر ليوناردو يقول:«كل فنان يرسم نفسه» وهذا ما فعله الفنان بالفعل فبعدما عمل لعدة سنوات فى اللوحة دون موديل يجلس أمامه، ما كان منه إلا أن رسم وجهه هو نفسه !

قامت «شفارتس» بتحليل أشهر بورتريهات ليوناردو الشخصية من خلال الكمبيوتر والذى يحفظ أصل الصورة بالطباشير الأحمر اليوم . يبدو الفنان فى هذه اللوحة فى مرحلة عمرية متقدمة بعد أن أصبح عجوزا يكسو وجهه وذقنه شعر ينسدل ويظهر على وجهه قلق وارتياب شديد، وربما يظهر أثر لبعض السخرية بدت بها زاوية فمه مسحوبة لأسفل وعظام خديه بارزة كذلك ظهرت التجاعيد على جبهته ممتدة إلى زوايا عينيه حتى طاقتى الأنف . كانت شفته العليا كنزة جدا وتبدو كخط واحد ممتد وكأن فمه خال من القواطع ورغم ذلك فقد نفذت من تجويف عينيه العميقة يقظة ولم تكن حدقة عينيه التى يمكن رؤيتها بصعوبة تنظر إلى من يتأملها، بل كانت تبتعد عنه وتركز على نقطة بعيدة فى الأفق.

إن تعبير الصورتين لا يمكن إلا أن يكون مختلفا فالموناليزا تتجه بنظرها إلى اليسار بينما ينظر العجوز إلى اليمين، إلا أن شفارتس وضعت بورتريه ليوناردو الشخصى أمام المرآة ثم وضعت الصورتين فوق بعضهما فوجدت أن هناك تطابقا كاملا، فالمسافة بين العينين واحدة وحجم الفم أيضا حتى المسافة بين عظم العجوز تتطابق مع تلك الموجودة فى صورة السيدة الشابة فلم تتعد نسبة الاختلاف أكثر من اثنين بالمائة ! لقد تساوى فى الصورتين قوس تجويف العين بشكل واضح.

وتكفى كلمتان لكى نلخص سبب تأثير الموناليزا فينا: إنها تتفاعل معنا غير أننا لا نستطيع التفاعل معها فليوناردو يتلاعب بواحدة من أهم غرائز البشر ألا وهو ميل الإنسان الذى لا يقاوم إلى أن يتعرف على السمات الشخصية لأى شخص يقابله من خلال وجهه ! ومهما كانت المرات التى خُدعنا فيها فى الحكم على شخص من خلال ملامح وجهه فنحن لا نستطيع تجنب تكرار هذا الأمر.

لقد أولى ليوناردو هذا الموضوع اهتماما خاصا، فلابد أن يكون الرسام على دراية كاملة بتعبيرات الوجه كى يستطيع أن يصورها على نحو يجعل المتلقى ينجذب إليها. قام الرجل بجمع صور للوجوه فى مذكراته فلم يترك طرازا من البشر ولا تعبيرا إلا وقام بتدوينه فهناك السيدات الشابات وهناك رجال مسنون . ومن يتصفح المذكرات سيرى وجوها أرستقراطية ووجوها أخرى خشنة الملامح، سيرى كذلك السعادة والاستسلام وسيرى الكبرياء والحرارة . بعض الوجوه رسمت بطريقة الفن الطبيعى بين الضوء والظل، ووجوه أخرى رسمت على عجل ببعض الخطوط السريعة .

يرجع سر الموناليز إذن إلى مهارة ليوناردو العبقرية فى تحديد التعبيرات المختلفة للوجوه . قام بتشريح رؤوس الجثث وأخرج منها عضلات الوجه فاكتشف أن الشفتين تتكونان من عضلات تعمل على انقباض الفم بينما تعمل العضلات الجانبية على اتساعها فى حالة الضحك، كما قام كذلك بالبحث عن مركز انطلاق هذه العضلات داخل الجمجمة وعن كيفية تشكل بشرة الوجه نفسها تحت هذا التأثير بل لقد ذهب إلى أبعد من ذلك فبحث عن العلاقة المتبادلة والتفاعل بين العضلات والمخ، فاكتشف أعصابا تتحكم فى حركة العضلات ومن ثم تؤثر فى التعبير عن المشاعر.

لم يتعمق أى فنان آخر فى عصر ليوناردو ولو من بعيد مثله فى أسرار الطبيعة البشرية فمن خلال ثراء معلوماته تمكن من أن يتلاعب بمهارة وعبقرية بقسمات الموناليزا وكذلك بمشاعر المتلقى فقسمات السيدة الشابة على سبيل المثال ليست متناسقة، حيث ترفع زاوية فمها اليسرى بصورة أعلي، ومن ثم فإن الناحيتين تنشران حالة مزاجية مختلفة .إذا ما قمنا بإخفاء نصف وجه الموناليزا الأيسر فإنها تبدو أكثر جدية أما إذا ما أخفينا الجانب الأيمن فإن الابتسامة تبرز بشكل أوضح، أفرط فى دراسة وتصوير الفروق الطبيعية لنصفى الوجه بحيث لا يسع المتلقى إلا أن يخمن فيم تفكر السيدة أو بماذا تشعر ويصل فى ذلك إلى نتيجة تختلف من متلق إلى آخر!

لقد أثبت بول إيكمان الباحث فى علم النفس العصبى والذى يعد رائدا فى بحث تعبيرات الوجه الإنسانى أن الوجه يبدو غير متساو عندما يحاول أن يظهر مشاعر زائفة، عندما يرغب على سبيل المثال أن يخفى غضبه خلف ابتسامة مصطنعة فما الذى كانت تحاول الموناليزا أن تخفيه عنا ؟ لقد فعل ليوناردو كل ما فى إمكانه كى يزيد من الإثارة فجعل كل نصف من وجهها على حدة لا ينم عن تعبير محدد، فلا توجد له أى معالم واضحة فكل النقلات من الأضداد بين الضوء والظل غير واضحة . وفى المكان الذى نتوقع فيه أن نرى بشرة الموناليزا إذ بنا نرى مساحة غير محدودة من الألوان بدءا من الأحمر على الخدود حتى الأخضر الزيتونى على الذقن، كل هذه الدرجات تتداخل دون أن نلاحظ هذا التأثير المعروف باسم «المزج التدريجى للألوان» مما يجعلنا نعتقد أن الوجه يتحرك فى اتجاهنا، والواقع أن نظرنا هو الذى ينتقل لأن ليوناردو لم يترك لنا نقطة ارتكاز نقف عندها !

لقد تمكن عالم الكمبيوتر الروسى الأمريكى ليونيد كونتسيفيتش من عرض هذا التحول فقد وضع أمام فم الموناليزا جهازا للكمبيوتر يحتوى على برنامج يعرف بـ «الطمس العشوائي» عندئذ بدت شفتا الموناليزا والجزء المقارب لهما من الخدين والذقن كما لو كانت تعرض على شاشة تليفزيون وبالفعل ظهرت ملامحها فى بعض الصور على درجة كبيرة من الألم كما لو كانت تحاول أن تستوعب خبرا مفزعا ! وهكذا دائما وأبدا فإن تعبيرات وجه الموناليزا ستبقى لغزا يحار المتلقى فى تفسيره ...فدون ذلك ستصبح مجرد لوحة مرسومة بمهارة لكنها لن تصبح أسطورة !

رابط دائم: 
اضف تعليقك
البريد الالكترونى
الاسم
عنوان التعليق
التعليق