رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

«ثلاث خطوات إلى المشنقة»

محمد محمد السنباطى;

الثـوار الأكراد كانوا صائمين حين حاصــرهم الجنـــود الأتـراك

 



يستلهم المبدع السورى الكردي، الألمانى الجنسية «جان دوست» قول الحلاج: «ثلاث خطوات تقربك إلى الله: بخطوة تترك الدنيا، وبالأخرى تترك الآخرة، وبالخطوة الثالثة تصل»، لينسج لنا رواية من أجمل الروايات وأعذبها رغم طائر الموت المحوِّم فوق معظم سطورها. رواية تسلبك سلبًا ولا تدعك حتى تنتهى منها. تتقطر إنسانية وتصفو صفاء الضوء وتتنزه فى خلاياك طويلا كالعطر الثمين بعد أن تفرغ من قراءتها.

.............................



جنديان تركيان يقودان شيخًا كرديًّا محكومًا عليه بالإعدام. الشيخ يسحقه العطش، بل إن أحدًا فى المدينة النائمة لا يعانى العطش سواه. بينما أحد الجنديين يشرب ويسكب باقى الماء على حذائه. الشيخ يريد طرح سؤال على الله «فيمنعه الحياء، ويرى أن أوان موته لم يحن بعد، فلم العجلة! والشمس لم تشرق والدنيا بعدُ ظلام. يبحث عن نجمة الصبح، ويرى أن الوقت مازال مبكرًا لظهورها. يرق الشيخ سعيد لحال الجنديين لأنه يراهما محتاجين لقسط من النوم!. ويداه مقيدتان خلف ظهره لاحت المشانق من بعيد. يسرعان فيسرع. آثر الصمت والعطش. من يقترب من الآخر أكثر: هو من الموت، أم الموت منه يقترب أكثر؟ الموت كالشمس ما إن تشرق حتى تغيب نجوم الحياة، ولذلك اختفت النجوم. لمح شهابًا يهوى فتذكر ثورته التى هوت بعد أن مات عطشًا، وكان الثوار الأكراد صائمين حين حاصرهم الجنود الأتراك. أسروهم جميعًا وكسروا جرارهم الصغيرة المليئة بالماء ليستبد بهم العطش. وكان عليهم أن يأخذوا عطشهم معهم حتى المشانق. وفى السجن الذى دام خمسة وسبعين يومًا جعل الشيخ يحلم بجرار الماء وإن ظل حتى فى أحلامه ظمآنا. ها هى المشانق فى انتظاره فى غبشة الفجر، وأراد طرح السؤال على الله لكنه ارتأى أن فسحة من الوقت ما تزال قبل أن ينقر طائر الموت روحه!

وعندما بدأت الطيور تفشى سر صباح جديد، بدأ الشيخ يشم رائحة صباح لن يأتي، فالشيخ لم يعد يرى أى لون سوى لون ذاك الليل الشبيه بذئب جبلي. ولكن الفجر الذى يفترض أن يرمى الذئب بسهامه، ذبح مثل خروف أمام تلك المشانق!

وهكذا لم يبق بين الشيخ وحبل مشنقته سوى خطوات ثلاث. خطوتان إلى المنصة، ثم خطوة ثالثة إلى الكرسي. وما يزال السارد يستحضر الثورات فيرى الشيخ الزيت الذى دهنوا به الحبل يلمع كما تلمع ثورة. ويتحسر: «كل ثوراتنا التى نشبت، لم تكن سوى بندقيتين أطلقتا النار دون تناغم ثم تبعتها المشانق!

لا ينفك السارد يأتى بالرموز. النور والضياء، الشهاب الذى سقط، لمعان حبل مشنقة كلمعان ثورة مهدرة، البنادق رصاصها غير متناغم، فى حلقة الحبل لمح نجمة توشك على الأفول. رآها هو ودعا الجنديين التركيين ليريهما إياها لكنهما لم يريا نورها. ترتعش النجمة مثل قلب عصفور خائف. الثورات تكنسها المشانق. فكر الشيخ فى إحصاء الخطى التى مشاها من باب السجن حتى هنا لكنه قال إن تلك الخطى لم تعد خطواتي. ليس لى سوى الخطوات المتبقية. وهكذا خطا خطوة من الثلاث وبقيت له خطوتان. ويظل الشيخ يلاحق النجمة فى حلقة الحبل كى لا تغيب عن عينيه بينما الريح تحرك أجساد الزملاء المشنوقين فتعرف الشيخ عليهم واحدًا واحدًا فانعصر قلبه. آلمت الأصفاد معصميه لكنه لم يأبه بها. شعر بالألم عندما لم يقدر أن يمسح لحيته بيده. ويبدأ فى استحضار الماضى حيث شيء يذكره بشيء. أراد أن يصلح وضع عمامته فتذكر ما يخص العمامة فى سابق أيامه. هبت الريح فبعثرت شعرات لحيته فتذكر مشطه المصنوع من خشب الجوز والذى صادره الجنود فيما صادروا. والآن قطعة السماء التى كانت تلوح من خلال حلقة الحبل ازدادت وضوحًا. وعندما شم رائحة أعواد المشانق عرف أنها من أشجار الحور فانثالت عليه ذكريات. وإذا بإحدى المشانق تتكسر تحت ثقل أحد رفاقه فيهوى مرتطمًا بالأرض. والمشانق الخمسين تذكره بالزلاجات الخمسين. قال: نحن أيضًا نتزلج صوب الموت.

واشتهى الماء لكنه تحمل العطش، ولم يكن نهر دجلة يعلم أنه ظامئ. وتذكر المراكب وقد ركب المركب فى طفولته عدة مرات.

«فى تلك اللحظة، وأمام المشنقة المنتصبة أمامه، ثارت ذكريات طفولته كعش دبابير أثارها طفل شقى بعود مشتعل الرأس نارا» «أما المشانق فقد ذكرته بالأشجار التى تسلقها» وعندما خطا الشيخ خطوته الأولى نحو المشنقة وقع مبسم غليون كان يخفيه تحت حزامه فتذكر حكاية الغليون. ومع الخطوة الثانية إلى المشنقة تذكر الفتاة «بريخان» التى كانت تخدم فى بيتهم. «كانت قامتها فارعة لطيفة كهذا الحبل الذى أمامي» «قامتها تشبه نهر عسل أجراه الله فى لحظة تجليات». نظر إلى الكرسى ثم إلى الحبل وتخيل أنه سيتدلى مثل قنديل المسجد. «كانت عينا بريخان الزرقاوان تخفيان فى أعماقهما حزنًا كما تخفى التلال كنوزًا فى جوفها. وجعل المحكوم عليه يتذكر بريخان وأزاهير الربيع والحب القادر حتى غلبت رائحة حبل المشنقة المغطس بالزيت رائحة تلك الأزاهير. وفجأة تأوه دون صوت: «لو كان عندى الآن قطعة بطيخ لرويت بها عطشي» وفى عينيه «بدا صف المشانق مثل سطر كتابة دونتها أصابع أنقرة بقلم من لوزان على ورقة كردية».

وأهم ما يميز أسلوب «جان دوست» أنه يكتب بدم بارد. لا انفعال. بهدوء السكين الحامية. وبلغة شاعرية متفردة، متقمصًا عقيدة الصوفى الذى لا يرى فى الموت موتًا. يجدل الحاضر بالماضى وتنساب الأحداث قادمة من الخلف كنهر يتهادى نحو مصبه. «تراكمت السنوات أمام ناظريه فخاطها الشيخ بعضها إلى بعض، جعل منها منديلا أخضر كالربيع تتوسطها شمس كشمس ذلك الصباح قبل خمسين عامًا حين عبر بحصانه جسر عبد الرحمن باشا. خشى الشيخ ألا يعينه الخيال فى رسم ملامح منديله ذاك فقفز فوق بعض الأعوام وأهمل التفكير فيها. صار يعصر عناقيد الزمن فى خياله ثم يشرب ولا يرتوي. يزداد ظمأ على ظمأ. لاح وجه بريخان الربيعى النضر مثل فراشة حول حلقة المشنقة. حامت تلك الفراشة مثل إبرة من الضوء فى خيال الشيخ المشغول بخياطة سنوات عمره» .

ونحن فى غمرة هذا الزخم الشعرى نظن الأمر قد انتهى عند هذا الحد، وأن السارد قد أتى على ما يملك من صور مدهشة، لكنه يسترسل:

«فى ربيع ذلك العام فى بالو، كان الفتى سعيد يداوى رمد عينيه برؤية قامة بريخان. تلك القامة صارت مكحلة لعينيه. بنى فى زرقة عينيها عشًّا لقطاة قلبه وطفق يغسل روحه فى أتون حبها الصامت»

وأراد أن يوجه السؤال إلى الله لكنه ارتأى أن الوقت لم يحن بعد «لوضع المفتاح فى قفل السماء».

يتركنا الراوى المبدع فى حيرتنا نتساءل عن السؤال وعما إن كان الشيخ سعيد سيجد الوقت للنطق به!

وإذا كان «السؤال مفتاح كل باب موصد»، فإن «الظمأ سؤال طويل جوابه الماء»

وتعاوده الذكريات الجميلة:

«هبت نسمة رخية هزت الحبل فتذكر جديلة بريخان التى كانت تهتز على كتفيها مثل جدول من الذهب» ونظن أن الصورة الشعرية قد انتهت لكنه يفاجئنا: «كانت تلك الجديلة تنسلت بسبب مشيتها السريعة من تحت المنديل وتهتز يمينًا ويسارًا مثل ذلك الحبل المنسلت من تحت منديل ليل ديار بكر الأسود فى تلك الساعة من الليل.»

وصار يتذكر «صوفيًّا شهيرًا تحدَّث فى أحد مساجد بغداد ذات يوم عن العشق. كان الناس يصغون له مغمضى الأعين وهم يحنون رؤوسهم. تحمَّس الصوفى وصار يشرح الجوانب النارَّة للعشق، وفجأة انفجرت قنادل المسجد وتحوّلت إلى رماد مشتعل سقط فوق رؤوس الجالسن الخاشعن. ثم مدّ الشخ ده إلى قلبه وقال لسعد: «أرأيت يا ولدي! يستطيع العشق أن يجعل القناديل تخرُّ من السقف فلماذا العتب على قناديل تضمها الصدور؟.

وتجرفنا الشاعرية مرة أخري:

«أصبح وجه بريخان عصفورة وبدأت تنقر تينة خياله الناضجة».

ها هو الشيخ سعيد وجهًا لحبل. الحبل كريه الرائحة. لكن الرائحة تلاشت عندما اتحد ذلك الحبل بالحبل الذى شد بريخان منذ خمسين عاما فى تلك اللحظة. «صرخ فى أعماق خياله: أنا عطشان يا بريخان. مازلت ظامئًا منذ خمسين عاما». وسبب ذلك موت بريخان وقد دأب سعيد على زيارة قبرها كل صباح. صنع حفرتين وملأهما بالماء لتأتى الطيور وتنهل منهما.» كان يريد أن يروى ظمأ الطيور. و«كانت مذراة خياله تذرِّى بيدر أعوامه السبعين على أنغام ريح الموت الذى بدأ يقترب أكثر. أما حال العثمانيين فكان كالتالي:

«الثور العثمانى العجوز الذى بيع جلده فى أسواق ما بعد الحرب الكبري، لم يعد يستطيع الحراثة بالمحراث الصدئ ويفلح أحلام امبراطورية مهزومة».

وحانت لحظة الشنق فقال فى نفسه: «سآخذ عطشى معى إلى الله».

ولكن ماذا عن السؤال المؤجل؟

«أسرج فرس سؤاله المؤجل إلى الله وكاد يطلقه فى صحراء تلك السماء التى غابت عنها النجوم لكنه تمالك نفسه وسكت ثم أطلق صقر خياله ليحوم حول أيامه الأخيرة».

ويتوالى تضفير الحاضر المداهم بالماضى المتراكم، وتمضى القصة وقد «أمسك جنديان بذراعيه ثم ساقاه وظمأه إلى ساحة الإعدام. صرخ أحد رفاقه من بعيد: الشيخ عطشان.. لا تأخذوه قبل أن يشرب».

وهنا ظهرت بريخان. «صارت فى حضنه. قالت له بصوت ألين من الماء: هذه خطوتك الرابعة. روحى فداك.»

وهنا انبثق صوت لا يدرى الشيخ سعيد من أين جاء. «كان صوتًا مرئيًّا مثل ضباب كثيف خرج من بين تلك الأمواج البيضاء الساطعة وانسكب إلى أذنى الشيخ قائلا:

ما سؤالك؟»

لتنتهى القصة بهذا السؤال المفاجئ فى ألمانيا، أيلول 2007 كأروع ما تكون النهاية، ونظل بعد انتهائنا من قراءتها مأسورين بجمال لم نمارسه من قبل، وبعذوبة تطرد من الحلق الجاف كل عطش.

رابط دائم: 
اضف تعليقك
البريد الالكترونى
 
الاسم
 
عنوان التعليق
 
التعليق