يمثل السلطان محمد الفاتح ( 1429 - 1481) الشخصية التركية الرعوية بكل تناقضاتها، دمويتها وعنفوانها، مكرها وخديعتها، ولا نبالغ إذا قلنا إن معظم الحكام الأتراك يتشبهون بهذا الحاكم فى نزقه وجنونه وتناقضاته التى لا تنتهى .
كان محمد الفاتح وحشيا ووديعا، قاسيا ومتسامحا،تقى ولوطى، بنى مدارس وأسواقا بالحماسة نفسها التى أمر بها بالتعذيب وارتكاب المذابح كما يذكر المؤرخ فيليب مانسيل.
وكان غموضه يظهر فى مفاوضاته بالطبع، وقد سئل يوما عن خططه فى التفاوض فأجاب كما يذكر المؤرخ ول ديورانت لو أن شعرة من لحيتى عرفت لا نتزعتها،
وأطلق عليه لقب الفاتح بعد أن سقطت القسطنطينية أمام مدافعه وحصاره الذى استمر أكثر من 20 يوما عام 1453، ومنذ هذه اللحظة اعتبر نفسه ناصر الاسلام رغم أن جنوده كانوا من المرتزقة وبعضهم كانوا من المسيحيين . وفور أن سقطت المدينة دخل كنيسة أيا صوفيا وأمر بتحويلها إلى مسجد أيا صوفيا، وهو تصرف يخالف كل التقاليد الاسلامية، ودعوته لاحترام أصحاب الديانات الاخرى وعدم المساس بكنائسهم ومعابدهم . ولعل واقعة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب عندما ذهب يتسلم مفتاح بيت المقدس، وحضرته الصلاة فصلى خارج الكنيسة ورفض أن يصلى داخلها، خوفا من أن يتخذها المسلمون بعده مسجدا، خير دليل على عدم معرفة هذا الحاكم بتعاليم الاسلام .
يلاحظ أن الحروب فى ذلك الوقت لم تكن حروبا دينية كما قد يظهر على السطح وإنما كانت حروبا تجارية واستعمارية، ومدينة القسطنطينية التى كانت تمثل الكنيسة الرومانية الشرقية تعرضت لحملة صليبية من تلك الحملات الصليبية التى كانت تأتى إلى مصر والمنطقة .. تحت ستار حماية بيت المقدس . إحدى هذه الحملات اتجهت عام 1204 إلى القسطنطينية واحتلتها بدلا من بيت المقدس، وذلك خوفا من قوة الدولة الأيوبية بعد الانتصارات الباهرة التى حققها صلاح الدين فى حطين وأذهلت قادة أوروبا.
ورغم أن صلاح الدين كان قد توفى منذ سنوات، لكن خليفته الملك العادل كان لا يقل كفاءة حربية عن شقيقه صلاح الدين ولذلك اتجهت الحملة الصليبية الرابعة إلى القسطنطينية واحتلتها، وكان وراء هذه الحملة منافسة تجارية بين القسطنطينية ومدينة البندقية التى جهزت هذه الحملة الصليبية . وتم تأسيس ماعرف باسم الامبراطورية التابعة للبندقية وظل البيزنطيون يواصلون المقاومة حتى استعادوا عاصمتهم عام 1261م .
ما ترفعه الحروب من شعارات دينية هى فقط لخداع العامة الذين يساقون إلى الموت بلا أى هدف غير مايوعدون به فى العالم الأخروى يعد وفاتهم بالطبع . ولو أن أى سلطان أو خليفة يريد أن يعبد الله حقا فعليه أن يعبد الله فى كوخ أو صحراء مثل الرهبان، وقبل ذلك عليه أن يحكم بالعدل، ولا يزهق أرواح البشر من أجل مجده الزائف .
وقد وصف الامام محمد عبده ما سمى الفتوحات الاسلامية بأنها أعمال سياسية حربية تتعلق بضرورات الملك ومقتضياته السياسية ومن ثم ليست بالحروب الدينية .
دخل محمد الفاتح القسطنطينية على حصان أبيض وسط جثث الموتى بعد أن أحل لجنوده سلب المدينة ونهبها، وطبقا لرأى أحد المراقبين . كان الدم يتدفق خلال الشوارع مثل مياه المطر بعد عاصفة مفاجئة، وطفت الجثث فوق هذه الأنهار متجهة ناحية البحر . وراح الجنود ينهبون المدينة، أخذوا من قصور الأمراء الذهب والفضة، والأحجار الكريمة والأقمشة الثمينة وامتلأت خيامهم بالغلمان المليحين والفتيات الجميلات .
كان محمد الفاتح فى العشرين من عمره فى ذلك الوقت يحمل كل نزق الشباب وتناقضات الشخصية الرعوية التركية . وعندما اعترض الصدر الأعظم جاندار لى خليل وكان سليل عائلة جاندار لى التى تستأثر بالمنصب على قرار غزو القسطنطينيه وقال عنه «حماقة شاب ثمل» أعدمه محمد الفاتح، وعين مكانه أحد عبيد الباب أى غير الاتراك صدرا أعظم. وسوف يصبح هذا هو الغالب طوال التاريخ التركى حتى اطلق الأتراك على مجلس السلطان أو الديوان سوق العبيد. وداخل الكنيسة الكبرى فى المدينة كنيسة أيا صوفيا تجمع مئات اليونانيين منتظرين معجزة السماء، فأخدهم جنود الفاتح أسرى، وتم استعباد نحو 30 ألفا، وقتل الآلاف غيرهم وبعد أن مات الإمبراطور قسطنطين فى أثناء القتال، قام محمد الفاتح باعدام رئيس وزرائه لوكاس نوتار لأنه رفض أن يقدم ابنه لمتعة السلطان اللوطى! كانت القسطنطينية تمثل وجيعة للغرب ولم يتنازل عنها اليونانيون بسهولة .
ومنذ اليوم الأول للغزو العثمانى ظهرت نبوءات طردهم . فالكاهن الذى قطعت صلاته أثناء قيامه بالقداس فى كنيسة أيا صوفيا بسبب وصول الأتراك، تخفى فى شكل عمود مرمرى بالكنيسة انتظارا لعودة اليونانيين، وسوف يخرج من مخبئه بشكل متألق، وفى يده كأس، ويصعد خطوات المذبح ويستأنف القداس الذى قطع يوم الغزو .
والامبراطور الأخير لم يمت بل تحول إلى مرمر، وأخذ ينام فى كهف فى باطن الأرض تحت الباب الذهبى . ويوما ما سوف يسمع الامبراطور نداء السماء، ويعطيه أحد الملائكة سيفا ويعيده إلى الحياة ليتمكن من طرد الأتراك .
بعد أن خربت المدينة استخدم السلطان أسلوب التهجير القسرى لنقل الأتراك إلى عاصمته الجديدة، وذهب السلطان بنفسه إلى مدينة بورصة التجارية لاجبار تجار المدينة وصناعها على الانتقال إلى القسطنطينية التى أطلق عليها اسم استانبول .
وراح الأتراك الدين هجروا قسرا من بلدانهم يغنون حزنا وألما .
إذا كان السلطان متقلبا فى قراراته
فإن بلاده ستتكبد العناء دوما
وإذا كان صدره الأعظم كافرا
فإنه سيسعى دوما للإضرار بدين الله
كان محمد الفاتح لايثق بالأتراك ومعظم العاملين فى قصره علاوة على الصدر الأعظم كانوا من عبيدا لباب أولئك الذين أخذهم جنود السلطان من أهلهم، وأصبحوا بلا بيت ولا أهل ولا أصدقاء، فلا يخشى منهم الغدر والدسائس أخذهم الفاتح من أحضان ذويهم وترك لأهلهم الحزن ينشدون :
لعنة الله عليك أيها الإمبراطور
لعنك الله ثلاثا
على الشر الذى فعلته والشر الذى لم تفعله / أنت تقبض على العجائز وكبار الكهنة وتكبلهم لكى تأخذ الأطفال إنكشارية لك فتبكى أمهاتهم وآباؤهم وكذلك إخوانهم وأخواتهم / وإنا أبكى حتى يضنينى البكاء
وسأظل أبكى مادمت حيا .
إذا كان ابن خلدون قال فى مقدمته إن أقل الاقوام حضارة أعظمها فتوحات، فإن هؤلاء القراصنة الرعاة العثمانيين عاثوا فى الأرض خرابا غربا وشرقا، دمروا دولا واسقطوا حضارات، وكان هدفهم القنص والصيد، وبعد أن توسع محمد الفاتح غربا، فإن خلفاءه وعلى رأسهم السفاح سليم الأول توسعوا شرقا فأغار على مصر والشام وايران، وخرب ودمر كل مكان نزلت به جنوده الإنكشارية ولكن يلاحظ على محمد الفاتح الذى انتصر فى حروب كثيرة، أنه لم يستطع أن ينتصر على نفسه ويكبح جماحها، فقد أنهك قواه كما يذكر ول ديورانت بكل ألوان الإفراط الجنسى، ولم تجد العقاقير والأدوية نفعا فى تجديد حيويته، حتى أدرجه حريمه آخر الأمر فى عداد الأغوات والخصيان ..
الغريب أن كل حاكم تركى يظن نفسه هذا الفاتح غريب الأطوار، فيذهب أحدهم ويصلى فى متحف أيا صوفيا بعد أن حوله إلى مسجد، ظنا منه أنه أصبح محمد الفاتح، رغم أنه فى النهاية قد يكون فقط مجرد أغا بلا أى معارك ولا انتصارات غير القرصنة لمن حوله .
بحلول عام 1481 وهنت قوى السلطان محمد الفاتح وخارت تماما مع أنه كان فى الثامنة والأربعين من عمره فقط . وفى تلك السنة لم يكن وزراؤه أنفسهم يعرفون البلد الذى كان السلطان ينوى غزوه، وفجأة مات بسبب انسداد الأمعاء، وقيل مات مسموما لصالح ابنه بايزيد الثانى الذى سيموت سموما أيضا بيد ابنه السفاح سليم الأول. السم الحقيقى نحن نتجرعه ونحن نتحدث عن هؤلاء القراصنة أعداء البشر والانسانية، بدلا من أن نتحدث عن الفن والابداع والتقدم الحضارى.
لمزيد من مقالات محسن عبد العزيز; رابط دائم: