حروب المياه هى حروب المستقبل، ولذلك تسعى الدول لتأمين حاجتها من المياه لتضمن لشعوبها الحياة، وفقا للاتفاقيات الدولية المنظمة لهذه الحقوق.ولكن بعض الدول ضربت بهذه المعاهدات عرض الحائط وتعدت على حصص الدول الأخري، ببناء السدود والقنوات وإنشاء البحيرات الصناعية، مما يعد خرقا صارخا للقانون الدولى واستخدام المياه كسلاح للإضرار بالدول،وهو ما تمارسه تركيا الآن ضد سوريا والعراق، ببنائها السدود على نهرى دجلة والفرات، مما يهدد البلدين بنقص حصصهما من المياه ويؤدى إلى الجفاف وزيادة نسبة التصحروتغيير طبيعة المنطقة بيئيا،فلم تكتف تركيا بالتدخل عسكريا وسياسيا بالبلدين بل تحاول السيطرة على مواردهما المائية ايضا.
ويرجع ما تقوم به الحكومة التركية حاليا إلى مخطط وضع فى عام 1930، ويعرف بـ «المشروع جنوب شرق الأناضول (GAP )»،والذى يتضمن إنشاء 22 سدا منها 14 على الفرات و8على دجلة، اضافة إلى مجموعة من المشروعات الاروائية والخزانات والأنفاق والقنوات و19محطة كهرومائية ، أهمهاعلى نهر الفرات سد اتاتورك وقره قايا وقرقميش واديمان وغازى عينتاب. اما المشاريع على نهر دجلة فابرزها سدود قرال قزى وباطمان وإليسو، حيث تقدر مساحة الأرض التى يرويها المشروع بنحو (1.7) مليون هكتار من الأراضى الزراعية، وتولد المحطات الهيدروكهربائية نحو (23) مليار ميجاواط/ساعة، وتقدر القدرة التخزينية للمشروع بنحو 100 مليار متر مكعب، وتمثل هذه القدرة ثلاثة أضعاف القدرة التخزينية للسدود العراقية والسورية مجتمعة. وعند اكتمال جميع المشروعات والأعمال والسدود ستتمكن تركيا من التحكم بنحو80% من مياه نهرى الفرات ودجلةحيث سيحجز المشروع 43% من مياه دجلة الداخلة إلى العراق و40% من مياه الفرات،وهو ما سيؤدى إلى زيادة نسبة التصحر،و سيزيد من نسبة الملوثات فى مياه الأنهاروزيادة نسبة ملوحة الأرض،وتقليص المساحات المزروعة وتخفيض حجم المياه الجوفية، مما يؤثر على المناخ والبيئة.
ويعد مشروع (GAP) من حيث المساحة من أكبر المشروعات فى العالم، وتعتبره تركيا بمنزلة ضمان الحياة المستقبلية، وتقدر التكلفة الاجمالية للمشروع ب 35 مليار دولار،و تخصص 2مليار دولار سنويا لإكمال المشروع بأعالى الفرات،حيث من المعروف عن منابع الأنهار أنها لا تكون إلا فى مناطق جبلية بأعالى الأنهار.وتتعامل تركيا مع هذا الملف على انه حق أصيل لها وما ستمتلكه من مياه ثروة وطنية تعادل ما تمتلكه المنطقة من النفط، فلقد سبق أن صرح سليمان ديميرل الرئيس التركى السابق قائلا: «إن مياه الفرات ودجله تركية، ومصادر هذه المياه هى موارد تركية كما أن آبار النفط تعود ملكيتها إلى العراق وسوريا، ونحن لا نقول لهما إننا نشاركهما مواردهما النفطية لذلك لا يحق لهما القول إنهما تشاركانا مواردنا المائية إنها مسألة سيادة إن هذه أرضنا ولنا الحق فى أن نفعل ما نريد»،وهذا الرأى يمثل فكر الحكومات التركية حتى الآن .
وينبع نهرا دجلة والفرات من جبال طوروس فى تركيا، ويمران بسوريا والعراق قبل أن يصبا فى الخليج العربي،و تستخدم تركيا عبارة «المياه العابرة للحدود» بدلا من المياه الدولية وذلك حتى تكون لها السيادة المطلقة باعتبارها دولة المنبع، ومن حقها أن تتحكم فى كمية المياه التى تمنحها للدول الحوضية،وذلك مخالف للقانون الدولى لتقاسم المياه خاصة الاتفاقيتين الدوليتين لعام 66 و97 من القرن الماضي، وأيضا مع الاتفاقيات الثنائية التى وقعتها مع سوريا عام 1987 .وترتكز تركيا على انها أحد البلدان التى لم تنضم إلى اتفاقية الأمم المتحدة لعام 1997 بشأن استخدام المجارى المائية الدولية فى الأغراض غير الملاحية مثل الصين واسرائيل، وهى الاتفاقية الدولية التى تناقش مجارى المياه العذبة عبر الحدود فى العالم.
ويرى الخبراء أن تركيا لها دوافع سياسية وليست اهدافا إنمائية كما تدعي، وتحاول أن تتعامل مع المياه على انها سلعة تجارية بما يخالف القانون الدولي،وتستخدم التحكم فى مياه النهرين كورقة ضغط غير مباشرةعلى سوريا والعراق،لفرض سيادتها على المنطقة،ولتنفيذ مخططها النفط مقابل المياه، وانها تستغل الأزمات لتحقيق أطماعها كما حدث فى عام 1987، عندما قايض الرئيس التركى آنذاك تورجوت أوزال بمنح سوريا 12 مليار متر مكعب من المياه اذا ما أوقفت دعمها لحزب العمال الكردستاني،ولذلك فإن ما تمارسه تركيا يعد ابتزازا ضد دول الجوار العربية .
ولقد حرك المياه الراكدة ما طرأ فى الفترة الأخيرة من مطالبات سورية وعراقية باللجوء إلى المجتمع الدولى لتطبيق نصوص القوانين الدولية،لوقف الاعتداء على نهرى دجلة والفرات باعتبارهما شريان الحياة للدولتين، وأن السدود التركية تسببت فى الإضرار بحصصهما المائية .ولقد تناقلت وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعى صورا للجفاف الذى اجتاح الأراضى الزراعية بعد انحسار مياه الأنهارفى كلا البلدين.
وبدأت قضية المياه عندما أعلنت تركيا البدء فى مشروع جنوب شرق الاناضول عام 1989،وبدأت ببناء سد أتاتورك على نهر الفرات الذى يعد رابع أضخم سد فى العالم، واكتمل بناؤه فى 1992، ثم سد إليسو الذى قررت تركيا انشاءه على نهردجلة عام 1997من أجل توليد الكهرباء وتم افتتاحه2018، وتم تشغيل إحدى توربيناته الست فى مايو الماضي، ويخشى من قدرة هذه السدود على حبس مياه النهرين لمدة 600 يوم مما يعنى قدرتها على تجفيف مياه النهرين .
ففى العراق أدى نقص المياه منذ عام 2017 إلى اتخاذ إجراءات مثل حظر زراعة الأرز، ودفع المزارعين إلى هجر أراضيهم. كما شهدت مدنها احتجاجات استمرت شهورا بسبب عدم توافر مياه صالحة للشرب، حيث تشكل الأمطار 30 % من موارد العراق المائية، بينما تشكل مياه الأنهار الممتدة من تركيا وإيران 70 %، و بناء السدود إلى جانب هطول الأمطار غير المنتظمة أدى إلى انخفاض مستوى المياه فى الأنهار بنسبة 40 % على الأقل .وسوف يفاقم سد إليسو من الوضع، وستظهر التأثيرات الاقتصادية خاصة فى قطاع الزراعة،حيث سيخفض كمية المياه المتدفقة إلى العراق بنسبة 60% .وحذر تقرير صادر من جمعية «المياه الأوروبية» من أن العراق قد يفقد بالكامل مياه نهرى دجلة والفرات بحلول 2040، مؤكدا أن نهر دجلة وحده سيفقد 33 مليار متر مكعب من المياه سنويا بسبب سياسة تقليل المياه التى تتبعها أنقرة،ولعب بناء السد دورا اساسيا فى التسبب فى العواصف الترابية وظهور التصحروتجفيف اعداد كبيرة من الأهوار مثل هور الحويزة . كما تعتزم تركيا إقامة سد «الجزرة» ما بين سد إليسو والحدودالعراقية، وهومخصص لأغراض الإرواء، مايعنى استهلاكه كميات كبيرة من المياه لغرض الزراعة من قبل الجانب التركي.ولقد طالب مسئولون بالعراق بالضغط على تركيا لزيادة الحصة المائية باستخدام الملف الاقتصادى حيث يبلغ حجم التبادل التجارى بين البلدين 16 مليار دولارسنويا.
و لايختلف الوضع فى سوريا كثيرا، حيث أعلنت «الإدارة العامة لسدود الفرات» فى بيان لها أن متوسط الكمية المائية الواردة منذ بداية شهر يونيوالماضي «أقل من ربع الكمية المتفق عليها» والذى أدى إلى انخفاض مناسيب بحيرات السدود السورية الثلاث المبنية على نهر الفرات ، وحذر البيان من «الآثار السلبية الكبيرة على البيئة بسبب نقص المخزون المائي» وانعكاسات ذلك على «المنتجات الزراعية واقتصاد المجتمع والأمن الغذائى العام».كما صرح مكتب الطاقة والاتصالات بأن تخفيض ساعات توزيع الكهرباء من 18ساعة يوميا إلى 10 ساعات يرجع إلى انخفاض منسوب مياه السدود.وحسب التقديرات الرسمية فإن نسبة المياه المتدفقة لا تتجاوز 200 متر مكعب فى الثانية، خلافا للاتفاقية السورية ــ التركية لعام 1987، التى تنص على أن تضخ تركيا المياه بمعدل 500 متر مكعب فى الثانية، مما يهدد المواطنين بالعطش فى مدينة الحسكة وحلب، ويؤثر بشكل واضح على الرقة ودير الزور، وبالرغم من تحكم تركيا ببعض مدن سورية، التى ترفع عليها أعلامها وتدرس لغتها وأيضا يتم التداول بنقودها، فإن ملف المياه هو جزء من محاولة الضغط على المنطقة لتحقيق المزيد من المكاسب.
وبالرغم من كون الحقيقة واضحة فإن تركيا تصر على أن السدود لاتضربمصالح سوريا والعراق ولا تؤثر على الحصص المائية،وأن اهداف السدود إنمائية فقط، ومستمرة فى تنفيذ مشروعاتها، فهل تستطيع الأمم المتحدة والمحكمة الدولية من خلال المعاهدات والاتفاقيات الملزمة الحفاظ على حقوق دولتى العراق وسوريا فى مياه نهرى دجلة والفرات ؟.الإجابة سوف نشهدها خلال الفترة القادمة.
رابط دائم: