يُمثل التعليم استثمارًا فى البشر، له غرض مباشر هو التأهيل للعمل وتلبية احتياجات السوق ومتطلباته، وإن كانت هناك أغراض أخرى أكثر اتساعًا وشمولية تتمثل فى بناء الإنسان/ المواطن وصياغة وعيه وتكوين شخصيته بأبعادها الروحية والاجتماعية والنفسية والصحية والعقلية، والتحلى بمنظومة قيم إيجابية، ومن ثم التأهيل للحياة كمواطن صالح يعيش فى مجتمع، بات يتسم بالتغير السريع والتطور المستمر، وقد حظيت قضية التعليم باهتمام المثقفين والمفكرين المصريين منذ نهايات القرن التاسع عشر، حتى أن أستاذ التاريخ الراحل د. محمد أنيس يقول إن مسألة التعليم كانت معركة من معارك الحركة الوطنية اتخذت أشكالًا مختلفة، وأنها شكلت جانبًا من معركة المثقفين المصريين ضد الاحتلال» (تطور المجتمع المصرى من الإقطاع إلى ثورة 23 يوليو سنة 1952)، ولم يكن غريبًا أن ينص الهدف الرابع من أهداف التنمية المستدامة (SDGs) السبعة عشر، التى وضعتها الأمم المتحدة عام 2015م وأُدرجت فى خطة التنمية المستدامة لعام 2030م، على ضمان التعليم الجيد المنصف والشامل للجميع وتعزيز فرص التعلم مدى الحياة للجميع«.
فى هذا الإطار تهتم الكثير من المؤسسات، الرسمية/ الحكومية والأهلية/ الشعبية، بمناقشة كيفية تحقيق هذا الهدف، وقد تلقيت أخيرا دعوة كريمة من الهيئة القبطية الإنجيلية للخدمات الاجتماعية (مصر) والمعهد العربى لحقوق الإنسان (تونس)، للمشاركة فى لقاء عن بعد، ضم نخبة من الخبراء والمتخصصين المعنيين، فى إطار نشاط الهيئة الدولية رفيعة المستوى حول مستقبل التربية والتعليم، التى أطلقتها اليونسكو فى يوليو 2019م، حيث تناول اللقاء عدة محاور دارت فى مجملها حول التحديات والمخاطر والفرص والمقترحات.
فى تقديرى أن البحث فى مستقبل التربية والتعليم يتطلب تفكيرًا جماعيًا ونقاشًا مشتركًا، من خلال إدارة حوار مجتمعي، جاد وموضوعي، يشمل كل مؤسسات المجتمع وهيئاته، فى مقدمتها القطاعان الحكومى والخاص، إضافة إلى المؤسسات الدينية والتربوية والثقافية والإعلامية والفنية والتشريعية ومؤسسات المجتمع المدني، إلى جانب الهيئات الإقليمية والدولية العاملة فى مصر، للتعرف على مواصفات الخريج الذى نتطلع إليه فى ظل تغيرات مجتمعية شتى وتطورات اقتصادية واجتماعية وثقافية وتكنولوجية، خاصة أننا نحتاج لخريجين يجيدون التعلم الذاتى وطرق البحث عن المعلومات وتحصيل المعرفة والمشاركة فى إنتاجها، واستخدام التكنولوجيا الحديثة والاستفادة مما تتيحه من إمكانيات كثيرة وهائلة، برزت أخيرا وعلى نحو واضح مع الاضطرار للاعتماد على آلية التعليم عن بعد.
إن ثمة مجموعة من التحديات تواجه تطوير العملية التعليمية منها إصرار البعض على العمل بصورة نمطية وطريقة تقليدية حيث التعليم القائم على النقل والحفظ والتلقين وفى المقابل إغفال الإبداع والابتكار والتطوير، ما ساعد على انتشار الدروس الخصوصية فى المنازل وتفشى ظاهرة السناتر، والكثافة العددية المرتفعة فى الفصول ما يجعل التواصل صعبًا بين المُعلم والطلاب، وقلة الأنشطة العملية والمهارات الحياتية ما يعطل توظيف المعلومات التى يحصّلها الطلاب، ارتفاع تكلفة العملية التعليمية والحاجة لقدرات مادية عالية للحصول على تعليم جيد ومناسب، ضعف تشبيك المؤسسات التعليمية مع باقى مؤسسات المجتمع، غياب متابعة المتميزين والنابغين من الطلاب فى مختلف المجالات ما قد يصيبهم بالإحباط أو التفكير فى الهجرة.
واقع الأمر أن هذه التحديات وغيرها إنما تفرض علينا التحرك اليوم وليس غدًا، والعمل من الآن، من خلال: الشراكة والتشبيك والتعاون والتنسيق بين مختلف مؤسسات المجتمع، والاهتمام بتطوير المناهج خلال فترات متقاربة بما يناسب التغيرات والتطورات التى يشهدها المجتمع، وتطوير أساليب التعليم والتعلم بما يناسب المستجدات، الاهتمام بالجانبين النظرى والعملي/ المهني، تدريب المُعلمين بشكل دائم ومستمر حتى لا تكون هناك فجوة بين الدارسين والمُدرسين، وإشراك كل عناصر العملية التعليمية وتشمل الطلاب والمُعلمين والإداريين وأولياء الأمور.
أذكر أن المفكر الراحل سلامة موسى كتب مقالًا فى مجلته (المصري) عام 1930م عنوانه: عقول جديدة لزمن جديد, يقول فيه: يجب ألا نقنع بأن نعلم أولادنا لكى يليقوا للوقت الحاضر بل يجب أن نتجاوز بهم إلى المستقبل. فبرامج التعليم السارية فى المدارس هذا العام يجب ألا توافق الأحوال التى نراها فى سنة 1930 الراهنة وإنما يجب أن توافق الوسط الجديد الذى سيسود سنة 1950 و1960 حتى إذا خرج الشاب من المدارس وجد انطباقًا بين كفاياته وبين حاجات مصر بعد ثلاثين سنة.
لمزيد من مقالات د. رامى عطا صديق رابط دائم: