مع استمرار تسبب وباء «كورونا» فى وفاة وإصابة الآلاف يوميا، تشتد الحاجة لرؤية دعوية تبعث على الأمل والتفاؤل وتعيد البناء النفسى للإنسان، وهو ما تناولته دراسة عن «رسائل أمهات الأنبياء فى فقه التعاطى مع الشدائد والنوازل والوباء»، عرج فيها الشيخ أحمد ربيع الأزهرى الباحث بالأزهر والإمام بالأوقاف ـ على حياة ثلاثٍ من أُمهات الأنبياء هن: السيدة «هاجر» أم نبى الله إسماعيل، وأم نبى الله موسي، والسيدة مريم أم نبى الله عيسي، مشيرا إلى أن حياتهن التى حفلت بالشدائد، تحمل رسائل فقهية تعد طاقة نور يهدى البشرية فى هذه النازلة.
هاجر عليها السلام
استهلت الدراسة بقصة السيدة هاجر زوجة سيدنا إبراهيم، إذ تعرضت لمحنة شديدة حينما تركها وولدها إسماعيل بأرضٍ قاحلة، وسألته: «يَا إِبْرَاهِيم إلي أَيْنَ تَذْهَبُ وَتَتْرُكُنَا بِهَذَا الْوَادِي؛ الَّذِى لَيْسَ فِيهِ إِنْسٌ وَلَا شَيْءٌ؟ فَقَالَتْ لَهُ ذَلِكَ مِرَارًا وَجَعَلَ لَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهَا، فَقَالَتْ لَهُ: اللهُ الَّذِى أَمَرَكَ بِهَذَا؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَتْ: إِذَنْ لَا يُضَيِّعُنَا». وعندما انتهى ما معها من طعام وشراب كان سعيها بين الصفا والمروة بحثًا عن الماء سبعَا حتي جاء الفرجُ من الله وأخرج بئر زمزم من بين قدم صغيرها.
وقصة السيدة هاجر تبعث إلينا عددا من الرسائل، أولها: صدق اليقين فى الله: قالت يا إبراهيم.. الله أمرك بهذا؟ قال نعم، قالت: إذا لن يضيعنا. وهذا ما نحتاجه الآن كبشرية وكأمة محمدية أن يكون لدينا يقين أن الله الذى خلقنا لن يُضيعنا، ولكنه ينزل البلاء للتمحيص والاجتباء، وأن نلجأ إلى الله روكعا وسجودا، وأن نُدرك مقام (العندية) الذى هو عين المعية الربانية والذى فطن إليه إبراهيم، فقال: «عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ» ومن بعده قالت زوجة فرعون «رَبِّ ابْنِ لِى عِندَكَ بَيْتًا فِى الْجَنَّةِ» . فيا ليتنا نُدرك هذا المقام ونسعى إليه متضرعين طامعين فى عطائه وفضله.
والرسالة الثانية هى الرضا بقضاء الله: عندما أخبر إبراهيم ـ عليه السلام ـ السيدة هاجر بأن الله هو الذى أمره أن يأتى بها فى هذه الصحراء الموحشة، أعلنت الرضا بهذا الأمر الإلهى .. والرضا بداية الفرج وبداية رفع البلاء، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «إِنَّ أَعْظَمَ الْجَزَاءِ مَعَ عِظَمِ الْبَلَاءِ، وَإِنَّ الله إِذَا أَحَبَّ قَوْمًا ابْتَلَاهُمْ، فَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَا، وَمَنْ سَخِطَ فَلَهُ السَّخَطُ»، وعليه فإذا قَدَم من يُصابُ بفيروس الكورونا الرضا بقضاء الله كان هذا بداية الرضا عليه من الله، ورضا الله فرج وشفاء، لكنه لو سخط فجزاؤه السخط، والسخط من الله وبال وشدة وألم، فالله فى هذه النازلة يريد أن نسكن إليه وألا نعترض على حكمه وأن نقدم الرضا بقضائه ليفتح لنا فضائل بركاته ونعمائه، فالفارق بين السعادة والشقاء كلمة رضا عند نزول القضاء.
أما الرسالة الثالثة فهى الأمل الفسيح: فلولا الأمل لتعطلت الهمم وزادت الشدائد والمحن، فها هى أم نبى الله إسماعيل تضرب المثل لكل الفرق البحثية والعلمية العاملة على صناعة واكتشاف دواء ولقاح لفيروس الكورونا بعدم اليأس، وكذا كل الطواقم الطبية العاملة فى مكافحة هذا الوباء بعدم الجزع واستبطاء الشفاء للمرضي، ففى طريق سعيها لسبل الحياة وطلبها للفرج والنجاة لم تسع بين الصفا والمروة مرة أو مرتين، بل سبع مرات حتى حصلت على النجاة ـ ماء زمزم ـ فلو أنه قد أصابها اليأس فى المرة الثالثة أو الرابعة أو الخامسة أو السادسة ما وصلت، فيجب أن تكون المحاولة بعد المحاولة فى محاربة هذا الفيروس وعدم اليأس والجزع، وأنه كلما خُيل إلينا باب للخروج من أزمتنا نسعى إليه مهرولين ولا نيأس إن خاب الرجاء وجاءت النتائج على غير ما نريد، وأن يكون الأمل سلاحنا، لكن يجب اقتران الأمل بالعلم والعمل، فالعلم إمام العمل، والعمل تابعه، والأمل دافعه.
والرسالة الرابعة هى القلوب الرحيمة: عندما ترك إبراهيم ـ عليه السلام ـ هاجر وولدها إسماعيل فى الصحراء توجه إلى ربه قائلا: «فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِى إِلَيْهِمْ» طلب من ربه قلوبا حانية عطوفة، لأن هذا أهم ما يحتاجه من فى شدة ومحنة، يحتاج للقلوب قبل الأيدي، وهذا ما يحتاجه المرضى والمصابون بهذا الوباء، فمريض الكورونا مناعته النفسية خطه الأول لمقاومة هذا الفيروس، فيحتاج إلى القلوب الرحيمة الداعمة له من الأطباء والممرضين والأهل والأصدقاء ليقفوا فى ظهره، وأن تزول حالات التنمر من الجهلاء بمرضى الكورونا.
أم موسي
وعرجت الدراسة إلى قصة أم موسى التى تعرضت لمحنةٍ شديدة وهى أن تُلقى ولدها فى اليم للنجاة من بطش فرعون وإذا تأملنا قوله تعالى «وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِى الْيَمِّ وَلاَ تَخَافِى وَلاَ تَحْزَنِى إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِين»، نجد أن هذه الآية تبين لكل شخص فى شدة ومحنة كيف تكون علاقته بالله كركن ركين للنجاة، فنفهم من قوله «وَأَوْحَيْنَا» أن هناك موحيا وموحى به وموحى إليه، ومقتضى ذلك صلة. فالرسالة والركن الأول المستفاد من قصة أم موسى هو الصلة بالله، فيا من نزلت بك شدة الوباء فى جسدك أو ولدك أو مالك كن على صلة بالله، والصلة بالله ذكر وحمد وثناء وشكر وقرآن وكل مسالك العرفان.
والرسالة الثانية مكمنها «الاستسلام» لقضاء الله وتدبيره، فعندما قال لها :«فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِى الْيَمِّ» لم تتردد مستسلمة لقضائه، وعندما قال لها: «إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِين» كانت واثقة بأن هذا كائن، وهذه هى الرسالة الثالثة «الثقة فى الله».
وعليه ونحن فى شدة هذا الوباء يجب علينا أن نُعيد بناء «العلاقة مع الله» على ثلاثة أركان: «الصلة» و«الاستسلام» و«الثقة»، ويُضاف إليها ركن رابع مقترن بتحصيل مسالك النجاة وهو «الأخذ بالأسباب»، فرغم صلتها القوية بالله واستسلامها لقضائه وثقتها فى وعده، فإن هذا لم يمنعها أن تأخذ بالأسباب «وَقَالَتْ لأُخْتِهِ قُصِّيهِ» وهذه هى الرسالة الرابعة من أم موسى «قُصِّيهِ»، أى تتبعيه.. فيجب أن نتتبع هذا الوباء حتى نصل إلى أصله وسببه، ونعمل على تفكيك ذراته وصولاً لصنع اللقاح والدواء، كما أن كلمة «قُصِّيهِ» هى نفس المهمة التى تقوم بها فرق الطب الوقائى والتقصى وجهات الترصد بوزارات الصحة فى دول العالم للحالات المصابة بالمرض وتقصى الحقائق حولها ليظل الوباء تحت السيطرة نرقبه بأعيننا كما كانت ترقب أخت موسى أخاها فى مهده.
مريم عليها السلام
وحول قصة السيدة مريم عليها السلام قال الأزهري: حين نتأمل قوله تعالى مخاطبا السيدة مريم: «وَهُزِّى إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا» فهى فى شدة ألم الوضع ومع ذلك طلب الله منها أن تأتى بفعل إيجابى وأن تصنع عملا تأكل منه ثمرا، رغم أن شأنه معها فى زمن الرخاء أن يرزقها بالطعام «كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَـذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ إنَّ اللّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَاب»، فلماذا فى زمن الشدة طلب منها فعلا إِيجَابِيًّا لتحصل على طعامها على الرغم من أن الطعام كان يأتيها فى الرخاء بغير حساب؟ والإجابة هى الرسالة الأولى التى نتعلمها من أم نبى الله عيسي ـ عليهما السلام ـ وهى أن العمل فى أوقات النوازل والشدائد والمحن أكثر أهمية فى غيرها، فالله عز وجل طلب فعلا إيجابيا صغيرا ..لكنه حول الشجرة اليابسة إلى نخلة مثمرة يتساقط ثمرها من ملامسة امرأة فى ضعف، لكنها قامت بقدر استطاعتها، وهنا تكمن الرسالة: (لا تنتظروا أن يتساقط عليكم الدواء قبل أن تهزوا المعامل وكليات الطب والعلوم هزا وترجوها رجا من حركتكم التى لا تهدأ من أجل الوصول للدواء واللقاح.. عندها يأتى العطاء ويرفع الداء ويزول الوباء وتتنفس الحياة فيما يبس، فالرسالة لنا أنه «قد انتهى زمن المعجزات والأمم تنصر بالقدرات» ومكمن ذلك «عمل متقن».
رابط دائم: