هذا السؤال تكرر كثيرا بعد واقعة التحرش الأخيرة ورغم أن الضحايا من خلفيات اجتماعية على قدر من الثقافة والثراء وطالبات بجامعات راقية إلا أن رد فعلهن لم يختلف عن تصرف البنت العادية القادمة من مجتمعات تقليدية أو شديدة المحافظة إذ استغل المتهم خوفهن من الأهل لابتزازهن فتحول أهاليهن إلى نقطة ضعف وليسوا ظهرا وسندا، قلة قليلة منهن من أخبرن الأهل الذين فضلوا سفر البنت للخارج وإغلاق الملف نهائيا. ورغم أن بعض الفتيات من الضحايا امتلكن الشجاعة للتحدث عبر وسائل التواصل الاجتماعى إلا أن أيا من الأهل لم يظهر ويعلن دعمه للبنت ووقوفه إلى جانبها، إلا القليل فلماذا؟
ما حدث مع هؤلاء الفتيات يكاد يتكرر حرفيا فى كل واقعة من هذا النوع إذ يتحول الأهل فى بعض الحالات إلى مصدر للتهديد ويصبح خوف البنت من أهلها دافعا لخضوعها للابتزاز او كتمان الأمر وتحمل تبعاته صامتة وقد تفضل أن تكشف لصديقاتها أو تتحدث باسم مستعار على مواقع التواصل لكنها لا تفكر فى البوح لأهلها خوفا من رد فعلهم.
لا يقتصر الخوف من الأهل غالبا على التحرش فقط بل يمتد إلى أمور أقل من هذا كثيرا وربما كان سلسلة متصلة، وتحكى «مي» وهى سيدة أربعينية متزوجة وأم لبنتين فتقول إنها تعرضت فى طفولتها للابتزاز من إحدى قريباتها التى كانت زميلة لها فى المرحلة الابتدائية فقد سمعتها تلك الطفلة «تشتم» زميلة أخرى فهددتها بأنها ستخبر والدتها وستسكت مقابل أن تعطيها السندويتشات والحلوى يوميا وتنفذ كل ما تطلبه منها ولمدة عام كامل وهى تطيع أوامرها وتخضع لها وعندما قررت التمرد ذهبت البنت الصغيرة وأخبرت والدتها وكان رد فعل والدتها عنيفا وألقت باللوم عليها وعاقبتها عقوبة شديدة. وتقول: كنت كثيرا ما أتعرض لمضايقات أو تحرشات ولم يخطر ببالى يوما أن أخبر أحدا من أهلى لأن معناه ببساطة أنى المخطئة وبأننى السبب وسيتم حرمانى من الخروج وسيقولون لى: ولماذا أنت بالذات دون كل البنات؟.
وتضيف: كبرت وأنا أخشى رد فعل أمى وحتى عندما تزوجت وفى كل خلاف مع زوجى وكلما اشتكيت لأمى يكون ردها «أنت اللى غلطانة..أنت اللى استفزتيه..أنت كبرت الموضوع» فدائما أنا السبب واللوم يقع علي، وحتى اليوم كلما فكرت فى الطلاق لا أتصور رد فعل أهلى، ولا يمكن أن أتوقع منهم دعما بالعكس سينقلبون ضدى وسيحاكموننى وسيحولون حياتى إلى جحيم أكثر من جحيم حياتى الزوجية.
جانيت عبد العليم الباحثة بمركز مساواة للتدريب والاستشارات والمتخصصة فى ملف التحرش تحكى عن قصة كانت شاهدة عليها ففى عام 2013 كانت تقوم مع متخصصين بعدد من الندوات فى المدارس الإعدادية عن التحرش وتقول: فى اليوم الأول بإحدى المدارس بمدينة نصر أنكرت جميع الفتيات تعرضهن للتحرش والتزمن الصمت الكامل، وفى اليوم الثانى تشجعت إحدى الفتيات وتكلمت وروت عن تعرضها للتحرش ثم انهالت علينا الشهادات بشكل مفزع وسمعنا شهادات مرعبة عن تحرش من تلاميذ صغار ورجال كبار ومدرسين وانخرطت الفتيات فى البكاء. قدمنا لهن المساعدة وشجعناهن على التحدث أكثر وكيف يتصرفن فى الوقائع المماثلة ولمن يلجأن ويطلبن المساعدة، فى اليوم الثالث وكانت الندوة مع طالبات ثانوى فوجئنا بمظاهرة من أولياء الأمور يمنعوننا من الدخول وأفهمتنا مديرة المدرسة أن أهالى الطالبات استاءوا من حديث الفتيات وطالبوا بوقف الندوات باعتبارها أمورا لا يجب أن تتحدث عنها الفتيات فالبنت لابد أن يكون «وشها فى الأرض وصوتها مايعلاش» مهما كان ما تتعرض له فكيف نقول لهن نحن تكلمن وواجهن وافضحن المتحرشين.
وتقول جانيت: إذا وجدت البنت الدعم من أسرتها ولم يكونوا هم مصدر خوفها لما كان السكوت على كل هذه الانتهاكات وكنا عرفنا العدد الحقيقى للضحايا.
الدكتورة هبة عيسوي، أستاذ الطب النفسى بجامعة عين شمس، ترى أن خوف البنت من أهلها ناتج عن سلوكيات الأهل وتربيتهم الخاطئة والنظرة التقليدية لتربية البنت فأغلب الأسر تتعامل مع الفتاة على أنها متهم وليست ضحية والبنت تعرف أنها لن تجد الدعم بالعكس ستجد مزيدا من التضييق عليها وربما يتم منعها من الخروج أو تعامل معاملة الجانية.
وتضيف حتى من يتحدثن من الفتيات مع الأهل لا يجدن الدعم المتوقع إلا فى حالات نادرة فغالبا ما سيكون رد فعل الأم «خلاص اللى حصل حصل واكف على الخبر ماجور» وستخفى الأمر حتى عن والدها لأنها تخاف هى أيضا أن تتهم بإساءة تربية البنت وأما ان تفكر الفتاة فى طلب الدعم من الأخ أو من الأب فهذا ما قد لا يحدث أبدا أو فى حالات نادرة جدا.
ولكن ما الذى يزرع الخوف فى قلب البنت من أهلها بحيث تلجأ للكتهان عن أن تخبر أهلها؟ تقول د.هبة عيسوى إن الأمر يبدأ منذ الطفولة عندما تخبر البنت أمها أمرا فلا تصدقها أو أن تحكى أسرارها للآخرين فتصبح الأم فى نظر البنت غير أمينة وتتوقف عن إخبارها بأى شىء ومن هنا يبدأ الانفصال وكثيرا ما يحدث أن يعود الابن أو البنت من الحضانة أو المدرسة ويخبرون ذويهم بتعرضهم للتنمر فيكون رد فعلهم «أصلك ضعيف وخايب» ومن هنا فرد فعل الأهل هو الخطوة الأولى فى زرع الثقة، وتلفت أستاذ الطب النفسى انتباهنا إلى قضية خطيرة وهى اعتقاد أغلب الأمهات الوهمى بأنهن صديقات لبناتهن فالأم هنا تريح ضميرها وتطمئن مخاوفها بأنها صديقة ابنتها وان الابنة تخبرها بكل شئ رغم أن الحوار بينهما لا يزيد على رسائل قصيرة بالتليفون أو الواتساب ثم تنغلق البنت على نفسها فى غرفتها ولا تعرف الأم عنها شيئا وتعتقد الأم أن ابنتها صديقتها وتقول لنفسها «أنا عارفة بنتى كويس ومربية بنتى كويس» كما لو كان مجرد الخطأ يجعل البنت «مش متربية كويس»، فتخاف البنت من فكرة خذلان الأهل أو أن تخيب ظنهم فيها لأنهم يتوقعون منها التصرف بشكل معين.
وتختم حديثها قائلة: على الأم أن تلاحظ دائما سلوك ابنتها و«تجرجرها» فى الكلام ولو حكت البنت عن صديقة لها تتعرض للتحرش أو أى مشكلة من هذا النوع فلابد أن تظهر الأم التعاطف والمساندة وتعود وتسألها عن صديقتها فما تحتاجه بناتنا هو التفهم والقبول والثقة فى أن الأهل دائما يساندونها ولا يمكن أن يكونوا سببا فى استضعافها أو تهديدها أو خذلانها.
رابط دائم: